"لقد أخذ الأوروبيون وصفات أدوية أمراض العين عن العرب واستعملوها طيلة القرون الوسطى محافظين على أسمائها العربية. ولم تظهر وصفات جديدة في أدوية العين على يد الأوروبيين إلا في مطلع القرن الثامن عشر". ماكس مايرهوف
الكحالة لفظ مشتق من كلمة الكحل، وهو في اللغة : " كل ما يوضع في العين يستشفى به مما ليس بسائل"، والكحال : هو من يضع الكحل في العين. ومنه فن الكحالة، والمقصود به طب العيون. والكحّال هو الطبيب الأخصائي في طب العين.
والواقع أن الفضل في معرفتنا بتاريخ الكحالة عند العرب يرجع إلى العالم الألماني هيرشبرغ Hirshberg الذي كان أستاذاً لطب العيون في جامعة برلين، والذي قضى خمسة وعشرين عاماً في البحث والتنقيب. وقد استطاع أن يبرهن على أن طب العيون بلغ مستوى عالياً جداً خلال القرن الرابع الهجري. وربما كان انتشار أمراض العيون في البلاد العربية الإسلامية سبباً للاهتمام الزائد من قبل الأطباء العرب بهذا الاختصاص، ونظراً كذلك إلى الأهمية الكبرى للنظر من بين كل الحواس عند الإنسان.
وفي كتاب ابن أبي أصيبعة نجد ما لا يقل عن اثنين وثلاثين كتاباً عربياً في طب العيون، ومثيل ذلك من الأطباء، بل إن ابن أبي أصيبعة كان هو نفسه كحَّالاً. وقلَّ من مشاهير الأطباء من لم يول هذا الاختصاص أهميةً كبرى، وخاصةً كبار الأطباء الذين خصصوا في كتبهم الموسوعية مكانةً هامةً لهذه الأمراض، أمثال الرازي وابن سينا والزهراوي ... وغيرهم.
ولقد بدا لهيرشبرغ أن كتاب العشر مقالات في العين لحنين بن إسحق(1) هو مصدر معظم المؤلفات التي جاءت من بعده، رغم أن المتأخرين أضافوا ووسّعوا، وأن أفضل كتاب في فن الكحالة هو كتاب عمار الموصلي. ويبدو من أبحاث الأستاذ المذكور وأبحاث ماكس مايرهوف، أن أقدم كتاب ظهر في أمراض العين هو كتاب دغل العين لأبي زكريا يوحنا بن ماسويه (242-190 هـ)، وهو مسيحي من أطباء البلاط في بغداد وأستاذ حنين بن إسحق. والكتاب مكتوب بلغة عربية رديئة، وحافل بالمصطلحات اليونانية والسريانية والفارسية. وهذا طبيعي وبديهي، فليس من الممكن لفرد لوحده، أن يقوم بمثل هذا العمل الجبار في البداية فيصل إلى القمة.
مشاهير الكحالين العرب(2)
علي بن عيسى الكحال (توفي عام 400هـ / 1010م) : أشهر الكحالين قاطبةً، وسبب شهرته يعود إلى انتشار كتابه تذكرة الكحالين الذي ترجم إلى اللاتينية، وظل يدرّس في مدارس الغرب حتى القرن الثامن عشر، رغم أنه ليس أجود ما كتبه العرب. كان نصرانياً واشتغل في بغداد. ترجم كتابه إلى الألمانية الأستاذ هيرشبرغ، وكتابه مطبوع بالعربية في الهند (حيدر آباد الدكن ـ عام 1963).
عمار بن علي الموصلي (توفي عام 400هـ /1010م) : عراقي الأصل، لكنه زاول المهنة في القاهرة إبان حكم الحاكم بأمر اللّه الفاطمي. ويعتبره هيرشبرغ أفضل الكحالين العرب نشاطاً وإبداعاً. وكتابه أفضل ما كتب بالعربية، وهو المنتخب في علاج أمراض العين وعللها ومداواتها بالحديد، وهو موسوعة تامة تحتوي على كل المعلومات السائدة في زمانه بالنسبة لأمراض العين. وصلت شهرته إلى الأندلس حتى ذكره الزهراوي في كتابه التصريف. وهو مبتكر طريقة قدح الساد بالمص التي ظلت مستعملةً زمناً طويلاً في أوروبا. ولقد قام الدكتور محمد ظافر الوفائي بتحقيق كتابه ونشره. وكان قد ترجمه إلى اللاتينية بانسيه Pansier وإلى الألمانية هيرشبرغ.
خليفة بن أبي المحاسن الحلبي :عاش في القرن الثالث عشر الميلادي في مدينة حلب، واشتهر في سوريا كلها. وكانت سوريا شهيرةً بطب العيون يؤمها المرضى من كل البلاد. وله كتاب الكافي في الكحل، وفيه وصف دقيق للغاية لعملية قدح الساد، مع رسوم للآلات والأدوات التي كان يستعملها. وكان واثقاً من نتائج عمليته على الساد، إذ كان لا يتردد في قدح العينين في وقت واحد.
ترجم هيرشبرغ كتابه إلى الألمانية ونشره في لايبزيغ عام 1905.ونشرته المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ـ إيسيسكو ـ سنة 1990 بتحقيق د. محمد ظافر الوفائي، ود. محمد رواس قلعجي.
صلاح الدين بن يوسف الكحال : عاش في مدينة حماه في سوريا في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، وله كتاب نفيس اسمه نور العيون وجامع الفنون، وفيه يشير إلى المصادر التي استقى منها معلوماته ويمتدح عمار الموصلي. وقد زين كتابه علاوةً على رسوم الأدوات كما فعل خليفة الحلبي، برسوم تشريحية للعين ولأعصابها ولعضلاتها.
علاء الدين بن أبي الحزم القرشي المشهور بابن النفيس الدمشقي ثم المصري (1288-1210م)، ولد في قرش (وكانت قرش قريةً خارج سور دمشق). ودرس في البيمارستان النوري وتتلمذ على يدي مهذب الدين الدخوار، ثم رحل إلى مصر واستقر فيها حتى وفاته. يعدّ في مستوى ابن سينا من الذكاء والعبقرية وكثرة الإنتاج، بل ويفوقه في الاكتشافات.
له كتاب المهذب في الكحل المجرب، ذكر فيه كل ما كان يُعرف في زمانه من معلومات بشكل منطقي أخاذ. وذكر أربع تقنيات لعملية الساد، منها عملية عمار (المص). وقد نشرته المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، ـ إيسيسكو ـ سنة 1988، بتحقيق د. محمد ظافر الوفائي. ود. محمد رواس قلعجي. وله أيضاً كتاب الشافي في الكحل.
محمد بن قسوم بن أسلم الغافقي : عاش في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، وكان كحالاً في قرطبة، ألف كتاب المرشد في الكحل، ترجم ماكس مايرهوف قسماً منه. وهو كتاب شامل جيد، وفيه رسوم للآلات التي كان يستعملها الغافقي في عملياته الجراحية.
كما تناول الكِحالة كلُّ الأطباء العرب والمسلمين الكبار في مؤلفاتهم الموسوعية : كالرازي في كتابه الحاوي، وابن سينا في القانون، والزهراوي في التصريف، وعلي بن عباس المجوسي في كتابه الملكي.
أشهر الكتب العربية في الكحالة
أفضل الكتب العربية المعروفة في هذا الفن هي :
ــ كتاب العشر مقالات في العين لحنين بن إسحق،
ــ كتاب تذكرة الكحالين لعلي بن عيسى،
ــ كتاب المنتخب في علاج أمراض العين لعمار علي الموصلي،
ــ كتاب نور العيون وجامع الفنون لصلاح الدين بن يوسف الكحال،
ــ كتاب المهذب في الكحل لابن النفيس،
ــ كتاب الكافي في الكحل لخليفة بن أبي المحاسن الحلبي.
تشريح العين
أخذ العرب، كما هو معلوم، وكما سبق وأن قلت في البداية، تشريح العين عن جالينوس، ثم كتب حنين بن إسحق كتابه الشهير العشر مقالات في العين، وفيه أكد هذه النظرية، وتناقلها من بعده الكثيرون.
وهي تقول بأن العين مؤلفة، تشريحياً، من سبع طبقات، وثلاث رطوبات.
أما الطبقات السبع، فهي :
الملتحمة Conjonctive، والقرنية Cornée، والصلبة Sclérotique، والمشيميةChoroide، والعنبية، (والجدير بالذكر أن كلمة Uvea باللغة اللاتينية هي ترجمة للكلمة والمصطلح العربي، وتعني : عنب)، والعنكبوتية Zonula de zinn، والشبكية Retina.
والواقع أن التشريح الحديث أثبت أنه لا توجد سوى ثلاث طبقات : الصلبة، والمشيمية والشبكية، وأن الصلبة تصبح شفافةً أمام الحدقة فتدعى عندئذ القرنية، والملتحمة لا تدخل في تركيب طبقات المقلة، لأنها تغطي القسم الأمامي المكشوف منها ما عدا القرنية، وأن العنبية مكونة في الواقع من : القزجية والجسم الهدبي، وشبهت بنصف حبة من العنب، ومنه جاء الإسم.
فإذا عدنا إلى كتاب المهذب في الكحل المجرب لابن النفيس، وجدناه يقول: "وقوم منعوا أن تكون الشبكية طبقة لأن جوهر الطبقة غشائي. وهذه جوهر عصب شبيه بجوهر الدماغ. ويلزم من هذا أن تكون العنكبوتية طبقة أيضاً، وكذلك الملتحمة، وقد قيل بذلك أيضاً. وقد عَدّ قومٌ المشيمية والعنكبوتية والعنبية طبقة واحدة، وكذلك الصلبة والقرنية".
يفهم من هذا الكلام الواضح أن الشبكية لا تشبه في بنيتها التشريحية بقية الطبقات، فهي مؤلفة من تفرعات العصب البصري.
ويؤكد الحسن بن الهيثم أهمية الجليدية، وعلى أنه عضو الإبصار، فيقول : "إن لحق الرطوبة الجليدية آفة مع سلامة بقية الرطوبات بطل الإبصار، وإن لحق بقية الطبقات مع بقاء الشفيف الذي فيها أو بعضه، ومع سلامة الجليدية، لم يبطل الإبصار، وأيضاً فإنه إن حصل في ثقب العنبية سدة وبطل شفيف الرطوبة التي فيها بطل الإبصار مع سلامة القرنية، وإذا زالت السدة عاد الإبصار. وكذلك إن حصل في داخل الرطوبة البيضية جزء غليظ غير مشف وكان في وجه الرطوبة الجليدية، ومتوسطاً بينها وبين ثقب العنبية بطل الإبصار. وإذا زال ذلك الغلظ أو انحط الجزء الغليظ عن السمت المستقيم الذي بين الجليدية وبين ثقب العنبية أو مال عنه إلى بعض الجهات عاد الإبصار، تشهد بجميع ذلك صناعة الطب".
أما الزجاجية فيصفها علي بن عيسى(3) بقوله : "وخلف الرطوبة الجليدية الرطوبة الزجاجية وهي بالقرب منها، وطبعها إلى الحرارة أميل، وهي كالزجاج الذائب، ولونها أبيض، يضرب إلى اللون الأدكن".
أما الرطوبة البيضية : "فإنها قوام العنكبوتية وهي ذائبة شبيهة ببياض البيض الرقيق، ولونها أبيض، وأما غذاؤها فمن الطبقة العنبية".