تنشغل خولة الزيتاوي، بتدريب ابنتها الصغيرة، غادة، على الحياة الجديدة، حياة الحرية من دون قضبان وسجانين. وتحاول جاهدة حمل ابنتها على التخلص من عقدة الابواب الموصدة، بعد الافرج عنهما في الدفعة الاخيرة التي جاءت كحسن نية من اسرائيل للرئيس الفلسطيني محمود عباس (ابو مازن)، بعد 20 شهرا قضياها في سجن هشارون وسط اسرائيل، تعودت خلالها الصغيرة، على ان ساعات الحرية خارج قضبان السجن وزنازينه، لا تتجاوز الساعات القليلة في اليوم. وحتى اليوم، ترفض غادة ان يغلق عليها باب، وهي التي كانت بحسب والدتها، تهرب من السجانين، كلما حاولوا اعادتها الى «القفص»، بعد انتهاء فرصة الاستراحة، وتبكي بكاء مرا، بمجرد حبسها من جديد. وفي السجن، او الغرفة الصغيرة، التي تسميها خولة «قفص»، بدأت غادة تحبو، وشهدت ممراته اولى خطواتها، واستمعت السجانات الاسرائيليات اولى كلماتها باللغة العبرية، «سوهيرت بو» اي «سجانه تعالى» بعد ان تضرب على الباب كي يسمح لها بالخروج.
واعتقال خولة ام غادة، كان بسبب اعتقال زوجها، جاسم ابو عمر، الذي اتهمه الجيش الاسرائيلي بالاتصال مع جهة معادية، وهي حزب الله اللبناني ومن ثم حكم عليه عام 2007 بالسجن 4 سنوات. وتقول خولة، التي حضرت من الكويت عام 2001 في زيارة الى بلدتها، جماعين، جنوب نابلس، فتعرفت بجاسم وتزوجته، «في يناير (كانون الثاني) عام 2007، وبعد ان خضع زوجي للتحقيق 50 يوما، داهم الاسرائيليون بيتي في منتصف الليل، واخضعوني للتحقيق 4 ساعات، بعد ان حجزوني في غرفة.. كانت ابنتاي غادة (7 شهور) وسلسبيل (عامين) نائمتين، وطلبوا مني ان اعطيهم «لابتوب واقراص كومبيوتر مدمجة وارواق تخص زوجي، وعندما اخبرتهم بانها ليست بحوزتي هددوني بالسجن، ووجهوا لي تهمة التستر على نشاطات معادية».
واضافت خولة في حديث لـ«الشرق الاوسط» انه «واثناء التحقيق معي، بكت غادة.. كانت رضيعة، فساوموني عليها، وقالوا لي، بنتك صارت تبكي، وانت خربت بيتك بايدك، أين الاغراض». وتابعت «قرروا اعتقالي بعد 4 ساعات، وطلبوا اسم واحد من الجيران ليرسلوا له البنتين، ثم نقلوهما «من دون ما اشوفهن.. قال لي المحقق روحي جيبي اغراضك، دخلت على الغرفة ما كانت بنتاي فيها.. سألت عنهما، حاولت اشوفهم، فرفضوا ذلك، وقالوا ما بنعرف وين راحن الحين».
لم تستطع خولة ان تتخلى عن ابنتها الرضيعة، انذاك، بعد ان اقتيدت الى مركز «بيت حتكفا» للتحقيق 8 ايام. وقالت «طلبت البنت، وانا عارف انو لا يمكن لها ان تعيش في غرف تحت الارض». وفي مركز التحقيق التقت خولة بزوجها 5 دقائق عند مغادرتها. وقالت «سألته عن حضانة البنت فترك الخيار لي، لكن اسيرا آخر نصحنا بالحضانة وقال لي، ستخفف البنت عنك». فكرة حضانة غادة اكتملت في سجن هشارون، حيث نقلت خولة لاحقا. وقالت «استشرت الاسرى وسألت الاطباء اذا كان هناك رعاية للبنت فنصحوني بذلك».
لكن احضار غادة الى امها، لم يكن امرا سهلا، اذ لا يوجد من يزور الام، لعدم وجود اقارب من الدرجة الاولى في فلسطين. فتم التنسيق مع الصليب الاحمر، ومن ثم تم احضارها مع زيارات اهالي اسيرات اخريات من رام الله. اللقاء بين الام وابنتها كان صعبا في بدايته، وقالت خولة «احضروها وكانت مريضة جدا، اول ما اجت لم تعرفني وهذا اثر فيّ كثيرا، وبكيت، انا بشر ايضا، بعدين صارت تميزني، صارت تبتسم لي، وانا كنت اعرف انها عرفتني من ابتسامتها».
وفي الغرفة ـ القفص، حاولت ادارة السجن معالجة غادة. وقالت خولة «حاولوا اعطاءها تنفس في السجن وادوية، لكنها لم تتحسن، والازمة كادت تتحول الى ربو، حتى جرى تحويلها الى مستشفى «مائير» في «كفار سابا»، وتركوني معها 4 ايام.. هي كانت تعالج، وانا كنت اتعذب، قيدوني في السلاسل في السرير ولم يكن مسموحا ان يفكوا الاصفاد الا اثناء الرضاعة».
كلما كانت تكبر غادة داخل سجنها، كانت تضيق الحياة بالأم، وتشعر بان الزنزانة التي مساحتها حوالي مترين في متر، وتقاسمها اياها اسيرة اخرى، ايضا تضيق. وتتذكر خولة «كنا اذا ما وقفنا، انا وسمر صبيح، (اسيرة من غزة)، نسكّر الغرفة، ولضيق المكان كان البرش (السرير) من طابقين، انا وبنتي تحت، وسمر فوق».
لكن خولة شعرت بصعوبة الحياة داخل السجن مع ابنتها، عندما بدأت غادة تمشي، وقالت «لما مشت غادة كان ذلك صعبا جدا، كانت هذه معاناتنا، كنا نحاول نشغلها طوال الليل لانها كانت دائما تريد ان تخرج. كات تحضر لي ملابس الخروج، تطبل على الباب، وصارت تحكي بالعبري، «ماما بو» (تعالي)، وكانت تنادي على السجانة «سوهيرت بو» لانها تريد ان تخرج».
ويبدو ان غادة الصغيرة التقطت بعض الكلمات العبرية التي ما زالت تتردها حتى الان، وقالت خولة «انها تعد للعشرة بالعبري وتغني احيانا، وعندما اغيب عنها قليلا تسألني بالعبري ماما «ايفو ات» (وين انتي)».
لم تكن السجانات يتجاوبن مع طلبات غادة، ولا حتى نقلها الى غرف اسيرات اخريات كانت تعرفهن، وتحب ان تذهب اليهن. وقالت خولة، وهي تضحك «كانت ترفض تسكير الباب، تبكي طويلا، وعندما تنتهي الفسحة، تطارد السجانات غادة التي كانت تهرب منهن خوف اعادتها الى الزنزانة» وتابعت «كنت اتحايل عليها، اقول لها ان سمر محضرة الك اكل».
وربما فان غادة كرهت الغرف المغلقة اكثر بسبب حبسها مرة مع امها حوالي 3 شهور و20 يوما بدون ان يسمح لاحد بالخروج، وقالت خولة «كان اليوم بسنة». وتروي انه في صيف العام الماضي قررت ادارة السجن معاقبة القسم، فمنعتنا من الخروج لحوالي 4 شهور من الاول من مايو (ايار) وحتى 20 اغسطس (اب) ومنع ايضا الاطفال من الخروج». وتابعت «هاي الفترة الاطفال تعبوا، وغادة ظلت بغرفة وكانت تحبي، ومرضت كثيرا واصبحت تعاني من البثور الجلدية.. ناشدنا السلطة والمحامين وقدمنا شكاوى ونشرنا رسالة لمؤسسات حقوق الانسان في ذلك الوقت، قلنا فيها ان اطفالنا يختنقون في جحيم هشارون».
وتتذكر خولة موقفا آخر عندما اعلنت حالة الطوارئ فجأة فكان مطلوبا من كل الاسرى الدخول الى غرفهم، وكنا مشغلين في الغرفة بلاطة الطهي لانه ممنوع الغاز، فدخلت مستعجلة خائفة وطلعت على البلاطة وانحرقت، وظلت تبكي لعدة ساعات بكاء مرا دون ان يلتفت الينا احد.. كل الاسيرات صاروا ينادوا على السجانات واصبحنا نبكي معها». ويتضح ان تجربة السجن لا تنتهي بانتهائها فقط، فاذا كانت خولة تغلبت الان على مشكلة نقص الغذاء الصحي والبروتينات داخل السجن، فانها تحاول الان تعليم ابنتها امكانية ان تقضي حاجتها في الحمام، وقالت «تعودت (غادة) انو ما في حمّام، لانو في الفسحة ما في حمّام، (كان يسمح للاطفال بالبقاء خارج الغرف من الساعة 9 الى 4 بعكس الاسيرات الى الساعة 12 فقط). والان اختلف الوضع واختلف كل شيء، كذلك، وبدأت غادة تتعود على الحياة داخل المنزل الجديد والفت شقيقتها وصارت تلعب معها، لكنها لم تألف كل الناس، وقالت خولة «اول ما يجو الناس بتسحبني وبتبكي.. مش متعودة، ترى الكل غريب وهي تعودت على اسماء ووجوه محددة طيلة 20 شهر».
وكانت خولة تعّرف غادة على اختها سلسبيل عن طريق الصور وقالت «كنت اخشى من عدم التقبل». وسلسبيل تلك قصة اخرى، فهي لم تزر والدتها طيلة 20 شهرا، وتحاول الام الان ان تكسر الحواجز بينها وبين ابنتها الكبيرة (4 سنوات) وقالت «سلسبيل مش متقبلة ان تبقى في البيت بدها تروح عند عمتها اللي ربتها».
وكان لقاء خولة بابنتها البكر في مقر المقاطعة في رام الله ايضا صعبا وقالت «لم استطع حملها مع غادة، كانت قد كبرت، وبكت بكاء مرا، ورحت وانا واياها وبكينا على جنب».
وتخطط خولة للعودة الى التدريس لكنها طلبت من السلطة الفلسطينية منحها فصلا اضافيا قبل ان تعود. وتقول «مش راح ارجع بدي احاول اخليهم يتعودو على بعض واسيطر على سلسبيل تظل في البيت».