وفي هذا المقال سنقف عند كلمات بعينها وأحرف , وقفت عندها كثيرا وتأملتها لأجدها قد ساعدتني في استيعاب القصة وتشربها ,، بل وتركت في أذني بعد سماعها جرسا موسيقيا جعلني أتلذذ بسماعها ، وضاعفت احساسي بالحدث ومدى تقبلي وتأثري به ..
وبمشاورة ومحادثة الكثير من الأصدقاء والزملاء ، وجدت أن نفس الأثر قد حدث عندهم ولكن دون تحديد لسبب هذا الأثر ... فقررت أن أقوم بمحاولة متواضعة للتأمل والتدبر ببساطة في آيات الله ، لعلنا نلتزم بالتدبر في آيات الله جميعا بعد ذلك لتثبت قلوبنا وتبعدنا بلذتها الساحرة عن ملذات دونية دنيوية تلقي بنا في غيابت الجب ...
نبدأ بالآية الثانية التي يقول فيها الله جل جلاله ( إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) .. فتركض أعيننا في أول الأمر وتتجه نحو ( إنا ) التي جاءت في مقدمة الآية كتأكيد لنزول القرآن باللغة العربية من أجل أن يفهمه ويعقله الناس أجمعين ، ولكن ما زاد من توكيد ( إن ) هو تكرار حرف العين ثلاث مرات ، هذا الحرف الذي يشعرنا بالقوة والإصرار ، حتى في منطقه نجد أننا نخرجه من دواخلنا ونعطيه حقا كبيرا في النطق ، يأتي ثلاث مرات كمساعد فعال لـ ( إنا ) تلك التي بدأت رحلة التأكيد واستكملتها العين بتكرارها..
ننتقل بعد ذلك إلى قول الله جل جلاله ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ...... ) ، ( إذ قال يوسف لآبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا ... ) ، في هذه الآيات يحكي الله جل جلاله لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أحسن القصص من وحي القرآن ، ونجد تكرار حرف الحاء في نحن وأحسن وأوحينا وأحد ، هذا الحرف الحلقي الذي يشعرنا بحنان لا حدود له ، حنان ورحمة من رب العالمين لعباده يحكي لهم قصص الأولين كي يتخذونها عبرة ، ويحكي لهم برحمته التي سبقت غضبه قسوة تجربة سيدنا يوسف حتى يجتنبوا معصيته ويقتربوا من حنانه ورحمته ، اللذان يؤديان في نهاية الأمر إلى جنة الفردوس الرحمة الكبرى ، ويدعم هذا الشعور والمعنى الرؤيا التي بدأ الله جل جلاله بها القصة ، وما الرؤية إلا رحمة من الله بعباده ، ينبئهم من خلالها بمكانتهم المستقبلية ، حتى يتخذون حذرهم إن كان شرا فلا يقعون به ، وإن كان خيرا يسعوا جاهدين لمناله ..
وننتقل بعد ذلك لتحذير الأب لابنه من أن يقص رؤياه على أخوته ( فيكيدوا لك كيدا ) ، والكيد في لسان العرب هو الخبث والمكر ، وأيضا هو الاحتيال والمجاهدة وبه سميت الحرب كيدا .. فاختار جل جلاله لفظة الكيد بدلا من الغضب أو الشدة أو التعصب لقوة معناها وعمقها ولكي تسافر بنا إلى عمق مشاعر اخوان يوسف وما يكنوه له من حقد دفين ، وتكرار اللفظة من خلال المفعول المطلق يؤكد معنى الكلام السابق ذكره ..
ويطمئن الأب قلب ولده بقوله له ( وكذلك يجتبيك ربك ) ، لفظة يجتبيك تلك التي تعني في لسان العرب الاصطفاء ، اجتباه أي اصطفاه ، وقال الزجاج في قول الله ( وكذلك يجتبيك ربك ) معناه كذلك يختارك ويصطفيك وهو مشتق من جبيت الشيء أذا خلصته لنفسك ، تلك اللفظة التي تحمل بداخلها حرفا له جرس موسيقي واضح ألا وهو حرف الجيم ، من الحروف المجهورة والتي تعطينا احساس بالقوة والثقة ، هذا الاحساس الذي أراد أن يوصله سيدنا يعقوب لابنه , القوة والثقة والطمأنينة ، وهو نفس الاحساس الذي أراد الله جل جلاله أن يوصله لسيدنا محمد ، ويريد أن يوصله لكل قلب مؤمن ومسلم يريد أن يتقرب من الله في كل فعل يفعله ...
ونأتي إلى مكر وكيد الأخوة ، ورحلتهم المزعومة التي أخذوا بها يوسف بعد جدال شديد مع أبيهم ، ونقاش انتهى بأنهم قد طمأنوه وقالوا له ( ونحن عصبة ) ، فكيف سيحدث ليوسف سوء ونحن عصبة ، والعصبة في لسان العرب نبات يلتوي على الشجر وهو اللبلاب ، والنُّشبة من الرجال الذي إذا علق بشيء لم يكن يفارقه ، هذه اللفظة التي استخدمها الأخوة لكي يطمئنوا أبيهم بأنهم شديدو الحرص على أخيهم الصغير ، فهم لن يفرطوا به قط ، فهم عصبة ، وجاء الحرف الحلقي العين مدعما ومعززا لهذا المعنى الذي يحمل في ظاهره قوة وطمأنينة وفي داخله حقد ومكر ودهاء ..
وكذلك يتضاعف احساسنا بمكر وحقد الأخوة على أخيهم يوسف من خلال لفظة ( غيابت – الجب – يرتع – يلعب ) , كل هذه الألفاظ المتتالية حملت أحرف تشعرنا بمدى قسوة قلوبهم وجفاء مشاعرهم تجاه أخيهم ...
ونجدنا نسمع صوت العملات المعدنية القليلة البالية جدا ، حينما يقول الله جل جلاله ( وشروه بثمن بخس ) ، التقاء أحرف الشين والسين والخاء ، تشعرنا بحركة العملات في ايدي بائعي يوسف ، حركة من اللامبالاة وعدم الاهتمام بشأن هذا الغلام الرائع ...
وتأتي مروادة امرأة العزيز ، تلك المرأة التي كانت تحمل من الجمال والسلطة ما يشجع سيدنا يوسف للخضوع لطلبها ، ولكن تقوى الله في قلبه كانت أكبر من جمالها وسلطتها ونفوذها ، فعندما راودته ( غلّقت الأبواب ) ، ولم تغلقها فقط بل غلّقتها ، تلك اللفظة التي تشعرنا بمدى احكام غلق الأبواب ، حتى جرس أحرف اللفظة يترك بأذنيك صوت الأبواب وهي تغلّق ...
( ولقد همّت به وهمّ بها ) ... تكرار حرف الهاء والتشديد على حرف الميم من بعده ، يشعرنا بقمة المعاناة التي لاقاها سيدنا يوسف للتخلص من تلك المرأة التي تعرض نفسها عليه ، وهي معاناة مشتركة ، حيث إن امرأة العزيز قد وجدت معاناة شديدة من أجل اخضاع يوسف لرغبتها وطلبها ، وحرف الهاء نخرجه تلقائيا من أفواهنا بعد كل جهد نقوم به أو عمل شاق ، ففي تلك الآية نشعر بأنفاس سيدنا يوسف المقاومة للمعصية ، وأنفاس امرأة العزيز العنيدة المسيطرة ...
( فلما سمعت بمكرهنّ أرسلت إليهنّ وأعتدت لهنّ متكئا وءاتت كل واحدة منهنّ سكينا وقالت أخرج عليهنّ ، فلما رأينه أكبرنه وقطعنّ أيديهنّ وقلنّ حاش لله ... ) ، هذا الموقف الذي يبين لنا مدى الغل والحقد الدفين بداخل امرأة العزيز تجاه يوسف الذي رفض جمالها وسلطتها ولم يخف من تهديداتها بل آثر السجن على جمالها ، فجاءت بكل امرآة تكلمت عنها في غيبتها ، وقالت لهم ها هو ذا الذي لمتنني فيه ، وتكررت في تلك الآية نون النسوة المشددة تلك التي تؤكد احساسنا بالغل والحقد والمكر الكامن في هذه الجلسة والتي هي محاولة أخرى لزعزعة سيدنا يوسف عن موقفه ، ولكن كانت محاولة فاشلة كغيرها ...
وهكذا ، في كل آية نجد موسيقا الحروف ، وبلاغة اللفظ تدعم وتؤكد وتعزز الحدث ، وتتسلى بالمعنى إلى أعمق نقطة في القلب ...
لعلنا ندرك أهمية استشعار القرآن بهذا الشكل ، وندرك أن كل حرف به له وظيفة ووظيفة مهمة جدا ، وأتمنى من كل قاريء لهذه المحاولة البسيطة أن يشاركنا في تعليقه بتدبر بسيط قد لاحظه عند قراءة تلك السورة ، وكيف شعر به وما سبب هذا الأثر ، وهل هذا الشعور زاد من احساسه واستيعابه لآيات السورة أم لا ؟؟
وفقكم الله جميعا
لميس الهواري