إن صياغة برنامج علمي واقعي وموضوعي يستجيب لمتطلبات الجماهير العربية الفلسطينية في إسرائيل في كفاحها العادل من أجل المساواة التامة والتطور الحضاري العصري، حاضراً ومستقبلاً في وطنها يستدعي الأخذ بالاعتبار أهمية التحليل العلمي لظروف وطابع المستجدات والمتغيرات الحاصلة والمترقبة في المجتمع الإسرائيلي، ومنطقياً على ساحة الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني- العربي، وأولاً وقبل كل شيء المتغيرات الحاصلة والمرتقبة على ساحة تطور العامل الذاتي –الجماهير العربية- سياسياً واقتصادياً – اجتماعياً وثقافياً.
فالقضية المركزية التي تواجهها الجماهير العربية منذ نكبة 1948 وتشريد الشعب الفلسطيني وقيام دولة إسرائيل وحتى يومنا هذا هي سياسة التمييز القومي المنهجية الرسمية الممارسة والقائمة على التنكر لحقيقة كون هذه الجماهير أقلية قومية وجزء عضوي من الشعب العربي الفلسطيني، لها حق المساواة القومية والمدنية في وطنها، وفي شتى المجالات السياسية والاقتصادية – الإجتماعية والثفافية.
والقضية المركزية هذه رافقتها دائماً ويرافقها السؤال المركزي الملح: كيف نحدد طابع هويتنا ومطالبنا في موضوع المساواة، وما هو موقع ودور الجماهير العربية في المجتمع الإسرائيلي في ظل المتغيرات الحاصلة، خاصةً اليوم في ظل العملية السلمية وبداية مرحلة تطبيع العلاقات الإسرائيلية العربية واتفاقات أوسلو مع م.ت.ف والسلطة الفلسطينية وإسقاطاتها على كفاح الجماهير العربية من أجل المساواة وتحديد موقعها في البنية السياسية – الإجتماعية في إسرائيل، خاصةً على ضوء اعتراف مختلف الأحزاب الصهيونية، المتواجدة في السلطة وخارجها بحقيقة التمييز والغبن اللاحقين بالعرب، ومضمون السياسة التي تنتجها السلطة والأحزاب الصهيونية في موضوع المساواة.
قضية المساواة:
في نضالها من أجل المساواة التامة في وطنها تواجه الجماهير العربية الفلسطينية في إسرائيل عقبتين أساسيتين: الأولى، الطابع الإثني للدولة، دولة اليهود، الذي يعني سياسياً الانتقاص من حقوق غير اليهود، وبالأساس الأقلية القومية العربية الفلسطينية في إسرائيل. والثانية، الخلط المنهجي بين شقي مفهوم المساواة، المساواة القومية للجماهير العربية في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، والمساواة المدنية المطلبية، أو بمعنى آخر الخلط بين الحقوق الجماعية لأقلية قومية متجانسة وبين الحقوق الفردية المطلبية بهدف طمس هوية الحقوق القومية.
فاستناداً إلى الطابع الإثني للدولة عملت السلطة الصهيونية والدوائر الحاكمة على صقل العديد من التشريعات القانونية والآليات التنفيذية لتجسيم سياسة التمييز القومي ضد الجماهير العربية بهدف تحويلها إلى قوة هامشية في المجتمع الإسرائيلي وعلى رصيف صياغة القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثفافي المقرر في حياة وتطور المجتمع سياسياً واقتصادياً وثقافياً.
ومن هنا نرى أنه من الأهمية بمكان أن يتمحور المنطلق في النضال من أجل الاعتراف بالجماهير العربية في إسرائيل كأقلية قومية، لها الحقوق الكاملة، كمواطنين في الدولة، في كل المجالات: السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية. وهذا يعني النضال لتغيير توجه الأوساط الرسمية ومفهومها المقبول على مختلف الأحزاب الصهيونية، الذي يعتبر العرب "عربان" يوزعهم على خانات "عرب" و "دروز" وبدو أو خليط من الطوائف لسكان "غير يهود" من "المسلمين" و"المسيحيين" و"الدروز" وكأنه لا وجود لأقلية قومية عربية فلسطينية في إسرائيل!
إن نضالنا من أجل حقنا كأقلية قومية لها الحق بالمساواة في صياغة القرار السياسي والإقتصادي المتعلق بتطور المجتمع والجماهير العربية، يرتبط عضوياً بالنضال لتغيير الطابع الإثني المبني على سياسة التمييز القومي المنهجية، ومن أجل أن تكون إسرائيل دولة لكل مواطنيها.
إن مفهومنا بشأن تحويل إسرائيل إلى دولة لكل مواطنيها قائم على اساس مطلب إلغاء سياسة التمييز القومي المنهجي الرسمي، والاعتراف بالعرب كمواطنين متساوي الحقوق، وإلغاء كل القوانين التي تميز ضد العرب. ففي دولة لكل مواطنيها لا مكان "للملكية القومية للأرض" والاعتراض على حق الجماهير العربية في ملكية أراضيها. ولا يكون فيها مكان للقانون العنصري الذي يبيح سلب الأرض من العرب ولأولئك الذين يؤمنون "بالترانسفير" وللمخططات العنصرية لاستيعاب مهاجرين جدد على اقتلاع الجماهير العربية من أرضها، طردها من أماكن عملها ومن وجودها بحقوق متساوية في وطنها.
وبسبب السياسة المنهجية الرسمية المتنكرة لكون العرب أقلية قومية انتهجت حكومات إسرائيل المتعاقبة سياسة تمييز قومي عنصري في المجال المطلبي للجماهير العربية، في الحقوق المدنية. فقد انتهجت السلطة ومارست شكلاً مشوهاً لدمج المواطنين العرب في جميع مجالات الحياة، دمج كولونيالي في جوهره – دمج بدون تطوير قائم على التمييز المنهجي. ولهذا الشكل المشوه للدمج هدف واضح: إبقاء الجماهير العربية كجسم وقوة هامشية في حياة المجتمع. وتفشل هذه السياسة بشكل منهجي التطور الإقتصادي الطبيعي في الوسط العربي، وتمنع تصنيع القرية والمدينة العربية، واندماج العرب على قاعدة المساواة في مجال التعليم والإدارة، وتمنع السلطات المحلية العربية حق السيطرة على مناطق تابعة لها وإقامة مناطق تطوير، ولا تمكن من إعداد برامج لتطوير القرى، كما يحرم المواطنون المسلمون من حقهم في الوقف الإسلامي وكذلك الحق في إقامة أطرهم الدينية المنتخبة.
ومن هنا نرى الرابطة العضوية على ساحة الكفاح بين النضال من أجل الحقوق المطلبية وعلاقتها العضوية بالنضال من أجل الحقوق القومية وارتباطها بأن تكون إسرائيل دولة كل مواطنيها.
النضال من أجل المساواة:
إن صياغة برنامج كفاحي صحيح يستجيب لمتطلبات معركة الجماهير العربية من أجل المساواة التامة، يجب أن يأخذ بالاعتبار، وتكريس كامل الانتباه للتغييرات وللظواهر الآتية:
* على الرغم من سياسة التمييز القومي الرسمية، يستمر تبلور صورة خاصة لشعب تحدث في داخل صفوفه تغيرات خاصة في بنيته الطبقية – الاجتماعية وما تحمله من قضايا عينية مطلبية جديدة تستدعي المعالجة والتوجه العيني لمطالبها بالمساواة. مثلاً يشكل الأجيرون ما بين الجماهير العربية 83.6% من مجموع العاملين، برجوازية فتية في المدينة والقرية، مؤلفة من مزارعين وأصحاب مصالح صغار، وتجار متوسطين، وبرجوازية متوسطة في مجال التجارة بما في ذلك أصحاب شركات مقاولة ومعامل تعاونية، تبلور فئة ذوي الألقاب الأكاديمية ومشاكلهم العينية، سياسة نهب الأراضي المباشرة وغير المباشرة (قانون الأملاك، شارع رقم 6) مقابل عصرنة الزراعة وتقليص عدد العاملين في الزراعة وانتقال الزراعة إلى عربة التطور الرأسمالي العصري في ظل سياسة التمييز ضد المزارعين العرب في مجال السوبسيديا والقروض والهبات والتعويضات الخ.
* تحت تأثير التغييرات الاجتماعية والحاصلة في درجة وعي الجماهير العربية لقضاياها العينية تشحذ الجماهير العربية آلياتها الكفاحية وتنتقل تدريجياً من العام إلى الخاص في القضايا المطلبية. فإذا حتمت ظروف أواسط السبعينات قيام الهيئات القطرية التمثيلية كآليات كفاحية حول قضايا مطلبية عامة لمواجهة سياسة التمييز القومي، مثل اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية، اللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي العربية، اللجنة القطرية للطلاب الجامعيين العرب، اللجنة القطرية للطلاب الثانويين العرب، لجنة المبادرة الدرزية، فقد شهدت سنوات أواسط الثمانينات وأوائل التتسعينات قيام هيئات تمثيلية قطرية حول قضايا عينية اختصاصية مثل لجان المتابعة للقضايا الصحية والتعليمية والاجتماعية واتحاد الكتاب العرب لجنة المتابعة العليا لقضايا الجماهير العربية، وتنظيم الكفاح النسائي المؤطر في تنظيمات قطرية من أجل مساواة المرأة في شتى المجالات.
وتعثر هذه العملية والمخاطر الجدية التي تهدد بشلها وموتها إجراء مواقف سياسة الرفض الإسرائيلية وممارساتها الإجرامية إبان حكم "العمل" وبشكل أخطر في ظل حكومة نتنياهو اليمينية.
إن مصلحة كفاح الجماهير العربية من أجل المساواة القومية والمدنية في المرحلة الراهنة ومستقبلياً تستدعي التركيز على أخذ الأمور التالية بالاعتبار:
* أولاً: أهمية التمييز بين الدعوة للانغلاق القومي، في نضال الجماهير العربية من أجل المساواة والحصول على الحقوق القومية، وبين الدعوة لوحدة الجماهير العربية والمطالبة في النضال من أجل المساواة. فحقيقة هي أن طابع نضال الجماهير العربية ضد سياسة التمييز القومي والمدني يلزم وحدتها لنجاح هذا الضال، وبغض النظر عن الانتماءات السياسية أو العقائدية. ولهذا بلورت الجماهير العربية في مسار نضالها من أجل إيجاد الحلول العينية لقضاياها آلياتها ومؤسساتها التمثيلية القطرية. كما أن طابع القضايا التي تناضل الجماهير العربية من أجل حلها – قضية المساواة والسلام العادل والتقدم الاجتماعي، ومن أجل مصلحتها تتطلب تعاوناً عربياً – يهودياً مشتركاً. فدولة تنتهج سياسة تمييز قومي وعنصري بشكل منهجي لا يمكن أن تكون ديمقراطية. ولهذا فقضية بناء مجتمع المساواة والتقدم الاجتماعي والديمقراطي هي قضية اليهود والعرب المشتركة والتي تستدعي تعميق التعاون اليهودي-العربي المشترك.
* ثانياً: هنالك حاجة لتطوير وتنظيم نشاط الهيئات التمثيلية القطرية العربية كأطر مناضلة فعلاً ذات نجاعة من أجل المساواة على أساس توسيع الوحدة الوطنية والديمقراطية للجماهير العربية. وهذا يستدعي برمجة نشاط هذه اللجان القطرية وتنظيم عملها ليكون متواصلاً وليس موسمياً وعفوياً ومجرد رد فعل على مظالم سلطوية عينية. ولذلك هنالك حاجة للتخطيط العلمي لنشاط هذه اللجان وتوثيق روابطها مع الجماهير حتى لا تكون مجرد لجان فوقية بيروقراطية تحكم الغربة بينها وبين الجماهير الواسعة صاحبة المصلحة الأولى لوجود مثل هذه اللجان.
ثالثاُ: نرى من الأهمية بمكان عمل ونشاط لجنة المتابعة العليا لقضايا الجماهير العربية كهيئة تمثيلية لجميع القوى والهيئات السياسية والشعبية الفاعلة بين العربية. وهذا يتطلب، حسب رأينا، الفصل الوظيفي، وعدم خلط الأوراق، بين لجنة المتابعة ولجنة رؤساء السلطات المحلية. وأن يبرمج نشاط وعمل هذه اللجنة الهامة عن طريق تغذيتها بطواقم مختصة لدراسة القضايا الأساسية للجماهير العربية المدعومة بالمعطيات والحقائق حول الواقع وماذا يتطلب من حلول ووسائل لتغييره بشكل يخدم مصالح الجماهير العربية، وأن يقام مركز أبحاث إلى جانبها وطاقم للدعاية والنشر لتعريف الرأي العام الداخلي والعالمي بمضمون قضايانا ومطالبنا.
رابعاً: عقد لقاء لمختلف ممثلي الهيئات السياسية والشعبية الفاعلة بين الجماهير العربية "لصياغة" برنامج مرحلي يحدد من خلاله كيفية تجسيم قرارات ونتائج مؤتمر المساواة ونقلها إلى أوسع أوساط الرأي العام الإسرائيلي والعالمي.
* المرحلة الجديدة وإسقاطاتها:
بحكم هوية وموقع الجماهير العربية المتميزة في إسرائيل كجزء من الشعب العربي الفلسطيني الذي بقي في وطنه بعد سنة 1948، وفي نفس الوقت كمواطنين في دولة إسرائيل، أدركنا أهمية العلاقة العضوية الجدلية بين المعركة من أجل السلام العادل الإسرائيلي – الفلسطيني – العربي وبين المعركة من أجل المساواة التامة للجماهير العربية في وطنها.
وهذا الربط العضوي في المسار الكفاحي للجماهير العربية ساعد في بلورة وزنها النوعي السياسي وهويتها كقوة ديمقراطية مناضلة في إسرائيل من أجل السلام العادل الذي يضمن الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني بالتحرر وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية،