شكل رحيل الدكتور جورج حبش قائد حركة القوميين العرب ومؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، خاتمة المطاف لرجل من نوع فريد، تمسك بالبعد القومي للصراع مع الصهيونية مع تحوله إلى الماركسية مازجاً بين الخاص والعام، وامتلك حضوراً وكاريزما عالية بين الناس.
"
اختزلت السياسة التحالفية لفصائل اليسار في البيت الفلسطيني الواحد وداخل منظمة التحرير الفلسطينية في فلسفة المحاصة، فكانت تلك المحاصة إلغاء للسياسة اليسارية المعلنة الداعية إلى بناء المؤسسات الفلسطينية على أساس ائتلافي ديمقراطي بعيدا عن منطق التبعية والاحتواء
"
شغل الساحة الفلسطينية سنوات طويلة منذ بواكير النكبة وصولاً إلى المرحلة القاتمة التي بدت فيها القضية الفلسطينية أمام عملية تصفية كبرى في ظل انعدام التوازن الدولي واستفراد دولة الاحتلال الصهيوني بحصار الشعب الفلسطيني، وإعادة إنتاج صيغة "تمويت" جديدة للقضية الفلسطينية في سياق التسوية المختلة الجارية منذ العام 1991.
وبرحيل الدكتور حبش يودع القوميون العرب واليسار الفلسطيني أبرز الرجال الذين دعوا منذ البداية لإحلال التصالح والتواؤم، وخلق مساحات العمل المشتركة بين "القومي والإسلامي"، متكئاً على قناعة راسخة أطلقها فصيحة واضحة، مؤكداً من خلالها على رؤيته القومية وتربيته وثقافته الإسلامية التي لا تتعارض مع مسيحيته.
رحل جورج حبش، فكان يردد القول دائماً "أستطيع أن أنسجم مع مسيحيتي ويساريتي وقوميتي مع ثقافتي وتربيتي الإسلامية"، وعليه كان سباقاً في ترتيب وبناء علاقة العمل الوطني والتجاور المشترك مع التيار الإسلامي الجهادي في فلسطين ممثلاً بحركتي حماس والجهاد.
وهذا ما أشار إليه الأخوان خالد مشعل والدكتور رمضان عبد الله شلح أثناء إلقائهما كلمات رثاء الدكتور حبش في أمسيات تأبينه في مخيم اليرموك بدمشق.
هذا الصفاء في شخصية الدكتور جورج حبش، أسعفه في شق طريق اليسار الفلسطيني في ساحة تعج بموزاييك الألوان الفكرية فلسطينياً وعربياً، لكن هذا الصفاء والطهرانية العالية لم يسعفه في إيصال اليسار وفكرته إلى حيث كان يجب أن تصل كما تصور جورج حبش.
ظهر ذلك بعد سلسلة من المآزق والانتكاسات التي مني بها التيار اليساري في الساحة الفلسطينية منذ تواتر عمليات الانشقاقات التي طالت الجبهة الشعبية قبل غيرها، وتوالت لتمتد إلى باقي قوى التيار القومي واليساري طوال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
ومن حينها، بدا اليسار الفلسطيني يعاني من أزمات أصابت كل المستويات الفكرية والتنظيمية والسياسية، بدءاً من أزمة النظرية والمنهج، إلى أزمة الممارسة والتطبيق التي حملت في داخلها أشكالاً من تعدد الرؤى وتباين الاجتهادات، وغياب الوعي بطبيعة التطور التاريخي الاقتصادي الاجتماعي في المجتمع الفلسطيني والعربي المحيط به، علاوة على عجزه عن الانتشار المؤثر أوسع أوساط الناس طوال الحقبة الماضية.
ونتج عن ذلك بالتالي طغيان الرؤية القاصرة المشوشة التي دفعت بدورها أحزاب اليسار الفلسطيني إلى مزيد من العزلة والاغتراب عن القطاعات الواسعة من الناس، فأمست أزمات اليسار الفلسطيني البنيوية الداخلية وسياساته الخارجية قديمة تتكرر ولا تتطور.
أما في الجانب السياسي، فقد بدت منذ العام 1969 الخلافات السياسية تنشب بشكل عميق بين أطراف وقوى اليسار الفلسطيني ذاته، وهي خلافات تمحورت حول الإجابة الفلسطينية المطلوبة من أجل إرساء برنامج سياسي فلسطيني وإعلانه أمام العالم.
نشبت تلك الخلافات في ظل مناخ من توالد موديلات جديدة كانت تضرب أطنابها في الساحة الفلسطينية والعربية وتعبر عن نفسها كنوع من "صرعات الأيديولوجية" المستولدة، في جانب منها من الفكر القومي، وفي جانب آخر من الفكر الماركسي اللينيني، تارة بألوان ماوية وتارة بألوان كاستروية أو جيفارية وهكذا..
واختزلت السياسة التحالفية لفصائل اليسار في البيت الفلسطيني الواحد وداخل منظمة التحرير الفلسطينية في فلسفة المحاصة، حيث تتوزع الحصص الكبيرة والصغيرة على تنظيمات صغيرة وكبيرة، ويأخذ كل طرف قسطاً ما يتحدد وفق صفقات "الكوتا"، ويستقر ذلك بالتمثيل في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ومؤسساتها الوطنية.
فكانت هذه المحاصة إلغاء للسياسة اليساريه المعلنة أصلاً والداعية إلى بناء المؤسسات الفلسطينية على أساس ائتلافي ديمقراطي بعيداً عن منطق التبعية والاحتواء.
فتماهت من حينها غالبية قوى اليسار مع الاتجاه الرئيسي في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، في نهجها السياسي وفي مؤسساتها، تماهياً حولها إلى "ديكور يساري" فقط في إطار "ديكور ديمقراطي" لنظام سياسي فلسطيني يفتقد الديمقراطية أصلاً في بنية أتخمت بالصراعات غير المبدئية وبالتنافس غير المبدئي المغرق في الذاتية الشخصية والتنظيمية.
"
عاش اليسار حالة النفي العدمي العاجز عن توليد الجديد في البرامج والرؤى، وعن إزاحة اللبس والضبابية في ممارسته السياسية، في ظل صراعات كانت في غالبيتها غير مبدئية وعبرت عن نفسها بانشقاقات متتالية
"
تم ذلك بالرغم مما شكلته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من تصادم سياسي كان يتواصل بين الحين والآخر مع سياسات الاتجاه القيادي الرئيسي في منظمة التحرير الفلسطينية، مع التجليات والتأثيرات الواضحة لشخصية الدكتور جورج حبش المثقلة بالطهرانية السياسية والتعفف الأخلاقي في ساحة فلسطينية، وبالرغم من إصراره الدائم على مقولة "كل البنادق نحو العدو"، ومقولة "وحدة حتى النصر".
واليوم يجد اليسار الفلسطيني نفسه أسير تراثه من الأدبيات ذات الطابع الإنشائي في غالبيتها، ومن المماحكات النظرية التي استنزفته في سجالات لم تستطع أن تعدو به إلى الأمام ولو بخطوات السلحفاة.
فبقي بعض اليسار من التنظيمات والأشخاص في الساحة الفلسطينية في خانة الذين يصعب تصنيفهم أو تمييزهم، حيث اختاروا المنطقة الرمادية تحت عناوين محشوة بالغوغائية ولغة الديماغوجيا السياسية، والتنظيمية الداخلية، متخذين عادة النفاق السياسي كطريق، لا يعرف الضوابط.
ومن هذا المنطلق، فإن في تشخيص أزمات اليسار الفلسطيني، نجد الأمور في صلبها بنيوية شاملة، تاريخية وراهنة، جعلت من التفكك والتراجع سمة من سمات فصائل وأحزاب اليسار الفلسطيني.
تم ذلك في ظل حالة النفي العدمي العاجز عن توليد الجديد في البرامج والرؤى والاشتقاقات والهيئات لدى أطراف التيار اليساري، والعاجز عن إزاحة اللبس والضبابية في ممارسته السياسية، وفي ظل الصراعات الداخلية في إطار بناها الداخلية، وهي صراعات كانت في غالبيتها غير مبدئية وعبرت عن نفسها بانشقاقات متتالية.
ولعل في التجربة الأخيرة المتمثلة في العملية الديمقراطية الانتخابية التي جرت في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني بداية العام 2006 ما يؤكد الاستخلاص الوارد أعلاه، فقد أفرزت الانتخابات المذكورة حقائق واضحة تفقأ العين.
وأول هذه الحقائق تمثل في هشاشة وتراجع حضور قوى اليسار الفلسطيني وضياعها، خاصة أنها تطلق على نفسها تيار "القطب الثالث" بعد عجزها وفشلها عن التوصل إلى قائمة موحدة نظراً لاعتبارات مختلفة كان على رأسها التراكم السلبي من العلاقات المتردية تاريخياً بين مكونات وأطراف هذا التيار.
وكان من بينها أيضا طغيان منطق "النرجسية الذاتية" والأنانية التنظيمية بين أطرافه بعيداً عن الخلاف البرنامجي الذي يلتحف به البعض من القوى اليسارية، ووجود حالة التنافس "الاحترابي بين أطرافها".
هذه الحالة جعلت أصوات اليسار وأنصاره تذهب إلى كل حدب وصوب لصالح ما تسميه بعض فصائل اليسار بيمين الحركة الوطنية الفلسطينية "وكل من يشرّق كثيراً يغرّب في النهاية" على حد تعبير الزعيم التاريخي للحزب الشيوعي السوري خالد بكداش.
وعلى هذا الأساس جاء تشتت قوائمها آنذاك على قوس يمتد إلى نحو عشر قوائم، لتضيع بين القطبين الأكبر، دون أن تحصل على نتيجة حاسمة تمكنها من إيصال العدد المناسب من مرشحيها إلى موقع النجاح والفوز بعضوية المجلس التشريعي.
فاليسار الفلسطيني أخفق في الانتخابات التشريعية التي مثلت التحدي الديمقراطي الأول له منذ الانطلاقة المعاصرة للثورة الفلسطينية، كنتاج واضح لتراكم الأوضاع الفكرية والتنظيمية والسياسية المأزومة داخلياً لمجمل أحزاب وفصائل اليسار الفلسطيني.
وهذه التراكمات أفرزت مجموعة كبيرة من الأسباب التي أدت إلى عزوف الناس عن ملاقاة قوى اليسار في ظل فشله في تحويل أي قضية من القضايا التي يتبناها في برامجه وأدبياته إلى قضية عامة، وفي عجزه عن تحويل استياء الشارع والناس في فلسطين لمظاهر الخلل في السلطة الوطنية، أو في المنظمة إلى قوة شعبية في محيط هذه الفصائل والأحزاب، مما أدى إلى تمركز الحالة السياسية والمجتمعية الفلسطينية حول قطبين: حماس وفتح.
وعليه فإن قوى القطب الثالث اليسارية والقومية في الساحة الفلسطينية باتت منذ زمن ليس بالقصير، قوى مشتتة ممزقة متنافسة سلبياً بشكل غير مبدئي، ودون اتفاق على الحد الأدنى بين مختلف أطرافها ومكوناتها.
"
يمين حركة فتح ومعظم الأجنحة الفتحاوية استفادت تاريخيا وبالمعنى السياسي وحتى حدود التخمة من تفكك قوى وأحزاب اليسار الفلسطيني، مما هيأ للقيادة الرسمية في منظمة التحرير الإمساك بيد مطلقة على مقادير الأمور في البيت الفلسطيني
"
هذه القوى مازالت تعيش حالة فوضى الماضي من العمل السياسي الفلسطيني وفي زمن الحرب الباردة، دون أن تدرك بأن واقعاً جديدا قد تشكل على الأرض خلال السنوات العشرين ونيف التي انقضت من التاريخ الوطني الفلسطيني المعاصر، ودون أن تدرك بأن عليها أن تغادر منطق وأساليب "المماحكة اللفظية والنفخ في الهواء" التي استهلكتها تاريخيا.
كما أن عليها أن تغير وأن " تصلح الذات في أحسن الأحوال" من أدواتها ومن برامجها وفعلها على الأرض، ومن تطوير لحياتها الداخلية ورفد هيئاتها بالدماء الشابة، وليس في إعادة استنساخ القديم وحده.
وقبل كل شيء لا بد لهذه الحركة من إعطاء عملية التجديد داخل أطرها حقها من الاهتمام بالمعنى التاريخي، وتجديد المواقع القيادية وإفساح المجال لجيل الشباب الذي نما وترعرع في ميدان الفعل والعمل المباشر، والتخلص من إرث "القاعدة السوفيتية" التي كانت فيها عضوية المكتب السياسي والأمانة العامة من "المهد إلى اللحد"، والتقاعد المتأخر في أحسن الأحوال، حتى لو أصابها "الزهايمر وخريف العمر".
غالبية قوى القطب الثالث مازالت محكومة بمنطق الحقبة السوفيتية التي تحتفظ بـ "العتاولة" وحدهم أمام صعود القاعدة التي دفعت الدماء والضحايا والدموع وضرائب الاعتقال والسجون.
وقد زاد من سلوكها الكابح لمنطق التطور وإفساح المجال لصعود القيادات الميدانية الشابة، استفحال إمساكها الأعمى بما تسميه "المركزية الديمقراطية" التي تتيح المجال لولادة (قراقوش أو فرعون التنظيم والحزب).
هذه هي الحال القائمة عند غالبية الفصائل المشبعة بروح الستالينية التي لم توفر استخدام الأدوات وحتى الأفعال السيئة في صراعاتها الداخلية التي استنزفت كوادرها وأعضاءها، في تقليد بشع به كان قد جوزيف ستالين جر عشرات الألوف المؤلفة من كوادر الحزب البلشفي نحو أقاصي سيبيريا، ونحو ساحات الإعدام رمياً بالرصاص دون رحمة أو رفاقية تشفع لهم أنهم كانوا يوماً ما في صف واحد.
إن اليسار الفلسطيني، في هذا السياق، وبالتشوهات التي شابت سياساته وبرامجه مع انقساماته المتتالية يتحمل مسؤولية كبيرة في ولادة مستنقع المظاهر السلبية من انحطاط الحالة الفلسطينية، بما في ذلك الاستخدام المزدوج للخطاب السياسي العملي وليس اللفظي في العلاقة في الساحة الفلسطينية، والاستخدام الفائق للنفاق والكذب السياسي واستيراد المبررات من نيو سوبر ماركت الشعارات عند ضرورة اللجوء إليها.
وفي هذا المجال أقول أيضاً وبكل شجاعة وصراحة بأن يمين حركة فتح ومعظم الأجنحة الفتحاوية، استفادت تاريخياً وبالمعنى السياسي، وحتى حدود التخمة من تفكك قوى وأحزاب اليسار الفلسطيني، مما هيأ للقيادة الرسمية في منظمة التحرير الفلسطينية الإمساك بيد مطلقة على مقادير الأمور في البيت الفلسطيني، وتحويل غالبية قوى وأحزاب اليسار إلى أقمار صغيرة تدور حول الكوكب الفتحاوي وبرنامجه.