كان الطقس جميلا. ككل يوم عطلة هادىء.. يبدأ متأخرا وينتهي كذلك. لكنه أيضا يشبه الأيام العادية بتفاصيل صغيرة تصبح كبيرة بحضرة الأخبار التي تتصدر رأس نشرات الفضائيات. هذا ما كان عليه يوم إجازتي عندما منعت قوات الأمن الفلسطينية مناصري حماس من إحياء انطلاقة حركتهم.
ليس الخبر بمعلوماته ما قلب نهاري رأسا على عقب، لكن حجم القوة التي رُدع بها هؤلاء كانت وراء استهجاني... ألقى ذلك، مع إحداث مشابهة جرت بين الطرفين، بفتيل نار اشتعلت، لتطير شرارة الاقتتال الداخلي بسطوة أعظم في غزة، رام الله، نابلس وجنين.
في اليوم الثاني... كنا بانتظار خطاب موجه من الرئيس أبو مازن إلى شعبه الفلسطيني، وكنت أنا أحاول الانشغال بأمور عمل جانبية حتى لا أسدي انتباها لما جاء فيه. لكن أسلوب الخطاب، وعباراته جعلني أترك كل شيء وأتابعه حتى النهاية، لم يكن إعجابا بقدر ما كان صدمة تبعها استفهام وعلامة تعجب لما سيأتي؟!
وما أتى لاحقا كان كما سبق، أرجوحة رئاسية تبعتها أرجوحة الحكومة.. كنت يومها على موعد مع صديقة عادت للتو إلى البلد بعد انتهائها من رسالة الماجستير... تأخرت عن الموعد لأن رئيس الوزراء كان لديه ما يقوله لرئيس السلطة.. إلا أنني وبعد دقائق من بدء الخطاب أيقنت أننا ذاهبون إلى مفترق مظلم، حلكته أشد من طرق الاحتلال. كما أيقنت أيضا أنني أدين باعتذار لصديقتي لأنني فضلت سماع الخطاب على موعدنا. لكنني ما إن التقيتها سألتها، بدلا من الاعتذار منها: لماذا رجعت الى البلد؟
نعم سألت هذا السؤال الذي استغربته مني. فبعد ان تمسكتُ بخيار البقاء هنا على الهجرة لسنوات سبقت، أصبح السفر خيارا يلوح لي في الأفق في أي لحظة الآن! شعور بالاغتراب؟ شعور بالغضب؟ لا يهم. المهم ان كل هذه المدن بما فيها من حجر وبشر ما عادت تسعني. وفي لحظة تمنيت حقا لو قدرت أن أسلخ جلدي عني، جلدي بكل ما يحمله من انتماء، هوية، ورائحة للوطن. وددت فعلا ان ارميه بعيدا، لأنه ما عاد يتحمل مهانة أكبر من مهانة أن ينزف دم فلسطيني بيد فلسطينية. صراحة: لا أبشع ولا أظلم من هذا.
هذا الشعور كان صرخة سرعان ما لاقت صداها بين شبان لم يكن من الصعب جدا تجمعهم. فالكثير منهم غاضب، والغضب واحد، والبلد أيضا واحد. كان المسيطر في تجمعنا كشبان هو البحث عن نكهة فلسطينيتنا بعد أن ضاعت هباء وتفرقت بين رصاصات الفئات الحزبية العمياء عن هدفنا الأساسي وحلمنا الأوحد: عن فلسطين.
ولأن الاقتتال الداخلي ازداد نهشا في الجسد الفلسطيني، فقد دفع صوتنا المبحوح ليخرج صرخة تقول: لا للاقتتال الداخلي، مناديا بفلسطين أكبر من الجميع. كان يوم الأربعاء الموافق 3/1/2007، انطلاقة لحلمنا الكبير. فـ "ما دمت أحلم، فانا حي، لأن الموتى لا يحلمون" كما قال محمود درويش.
وبذلك حملنا حلمنا على أكتافنا وتوجهنا الى دوار المنارة، وبسؤال استفزازي سألنا الناس المارة على الطريق " هل أنت مع الاقتتال الداخلي؟"
البعض، ويا للأسف، قال نعم. أما الآخرون الذين قالوا لا، فقد حملوا الشارة الرمادية اللون (حاولنا، كشباب، أن نبتعد عن كل الألوان التي قد ترمز من بعيد أو قريب لأي حزب أو تجمع آخر، ليكون الرمادي لونا محايدا يحمل دعوة للأمن والاستقرار) على أيديهم مع ملصق صغير يحمل شعار الحملة:فلسطين اكبر من الجميع. كانوا عشرات وعشرات من الناس الذين أصبحوا جزءا من الحملة التي لن تتوقف إلا بتوقف الاقتتال الداخلي.
على المنارة كنا كالجيش الذي حاول نشر فكرته على أكبر عدد من الناس ودون أي استثناء؛ بائع الخبز، سائق التاكسي، عامل النظافة، أستاذ الجامعة، السيدة العجوز، الطفل الصغير، وحتى رجال الشرطة التي وضعوا الشارة الرمادية على أفواه بنادقهم!
وجوه الناس كانت متلهفة بشوق، ليس لنا كشباب تركوا أعمالهم ونزلوا الى الشارع معترضين، وإنما على الروح الفلسطينية التي فاحت بيننا، ووصلت الى أبعد مما كنا نظن، فبعد أيام من التجمع وصلتنا العديد من الرسائل الالكترونية تريد الاستفسار عن نشاطات فلسطين أكبر من الجميع. كان أغربها اتصال من النرويج، من شاب فلسطيني من بلدة جيوس ( قرية تقع داخل الخط الأخضر) يود أن يشارك في الحملة وينقل هذه التجربة للتجمعات الفلسطينية في الشتات، لتكون فلسطين على حد تعبيره كبر من الجميع، على أرض الواقع لا كشعار للاستهلاك!
لا أود قول المزيد. وأعلم أن هنالك الكثير ممن يعتقدون أن من يقرر أن يصوب سلاحه في وجه أخيه لا يفكر أصلا بفلسطين. لكنني أقول، ومن خلال تجربتي المتواضعة في الحملة، التي عرفتني على ما يحتاجه الفلسطيني الحقيقي حقا، أننا وبصرخة كبيرة واحدة تقول دائما وأبدا: لا للاقتتال الداخلي نعملفلسطين أكبر من الجميع تتسع لحلمنا، يمكننا رد رصاص الطائشين.
فلسطين أكبر من الجميع حملة انطلقت من رام الله، وستمتد الى جميع الأراضي الفلسطينية، وهي مستمرة الى ان يتوقف الاقتتال الداخلي.