عبثاً حاولت والدته اقناعه بالعودة للدارسة في المدرسة القريبة من منزل العائلة. فقد أصر الطفل على مواصلة الدراسة في مدرسته تقع في أحد مخيمات اللاجئين وسط قطاع غزة، و تبعد كيلومترين عن البيت الذي يقع في اقصى الشرق. فبالنسبة لهذا الطفل، فأنه يفضل تكبد عناء ومشقة المشي، وحتى الضياع في الشارع، على أن يبقى في المدرسة التي عيره بعض طلابها بأنه ابن " عميل " قتل على أيدي عناصر احدى الفصائل خلال الانتفاضة الأولى. هذا المشهد يشي بمظهر واحد من مظاهر واحدة من أخطر المشاكل التي تعصف بالمجتمع الفلسطيني منذ عقود من الزمان. فمشكلة العملاء وما يقومون به من دور، فضلاً عن طريقة تعامل السلطة والفصائل الفلسطينية مع هذا الملف، أصبحا يؤثران ليس فقط على نجاعة مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال ومشروعه، بل أيضاً على نسيج المجمتع الفلسطيني وشبكة العلاقات المعقده داخله. ونحن هنا بصدد تسليط الضوء على ظاهرة العملاء في المجتمع الفلسطيني، وطرائق المخابرات الإٍسرائيلية في محاولة إسقاط أكبر عدد من الفلسطينيين في براثن العمالة، ودور العملاء في الحرب التي يشنها الاحتلال على الشعب الفلسطيني. والى جانب كل ذلك سنحاول اختبار وتقييم الوسائل التي اتبعتها الفصائل أولاً، ثم السلطة ثانياً لمواجهة هذه المشكلة، وتبعات التشبث بهذه الوسائل.
أهداف ومرامي تجنيد العملاء
منذ أن بدأت الصراعات بين الدول والشعوب، برزت ظاهرة العملاء، وأصبحت قدرة دولة ما على تجنيد عيون لها من مواطني الدولة التي تكون في حال حرب معها، عاملاً حاسماً في تحقيق التفوق في المواجهة ضدها.و يشهد تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام، والصراع الإسرائيلي الفلسطيني بشكل خاص، على أن الدولة العبرية وظفت جهوداً وطاقات كبيرة من أجل تجنيد أكبر عدد ممكن من العرب والفلسطينيين للعمل لصالح اجهزتها الاستخبارية، ومدها بالمعلومات التي تساعدها في توجيه ضربات قاصمة للدول العربية والمقاومة الفلسطينية. تؤكد العشرات من الاحكام التي اصدرتها المحاكم الفلسطينية بحق العشرات من العملاء خلال الانتفاضة الحالية أنه بدون المعلومات التي يقدمها العملاء لم يكن بوسع الجيش الإسرائيلي تنفيذ أياً من عمليات الاغتيال والتصفية بحق قادة وعناصر حركات المقاومة، فضلاً عن تنفيذ عمليات الاختطاف والاعتقال التي يتعرض المقاومون. وهذا ما أكده جميع قادة جهاز المخابرات الاسرائيلية الداخلية " الشاباك " ( الذي يتولى بشكل أساسي مهمة تجنيد وتوظيف العملاء من الفلسطينيين في الجهد الامني للدولة العبرية)، الذين تباهوا بقدرتهم على توظيف العملاء في مجال محاربة المقاومة. ويزخر كتاب " القادم لقتلك "، الذي ألفه يعكوف بيري، الرئيس الأسبق لجهاز " الشاباك " – والذي صدر قبل عدة أعوام - بالمعلومات التي تعكس حجم المساهمة الهائل للعملاء في تسهيل عمليات جيش ومخابرات الاحتلال. اللافت للنظر أنه حسب التحقيقات التي أجرتها الأجهزة الأمنية والفصائل الفلسطينية مع العملاء تبين أن بعضهم قاموا شخصيا بتنفيذ عمليات اغتيال أو محاولات لتنفيذ اغتيال. بعض العملاء اعترف بدور مباشر في المجهود الحربي لقوات الاحتلال. ففي مؤتمر صحافي عقده جهاز الأمن الوقائي الفلسطيني في قطاع غزة قبل عام ونصف اعترف أحد العملاء الذين زرعهم جهاز " الشاباك " في صفوف الجناح العسكري لأحدى الفصائل الفلسطينية، أنه كان يقوم بإبطال مفعول العبوات الناسفة التي كانت حركات المقاومة تقوم بزرعها في الشوارع التي تفترض أن قوات الاحتلال ستسلكها لدى اقتحام مدينة " رفح "، جنوب قطاع غزة التي كان يعيش فيها هذا العميل.
ويواصل العملاء رصد المقاومين حتى بعد أن يتم ايداعهم السجن. فمنذ أوائل السبعينيات عرفت الحركة الوطنية الأسيرة في سجون الاحتلال ظاهرة " العصافير "، وهم عملاء تقوم المخابرات الاسرائيلية باعتقالهم لكي يقوموا باستدراج المقاومين الذين يتم اعتقالهم للادلاء باعترافات وذلك في فترة التحقيق مع هؤلاء الأسرى. وحسب ما أفاد به عدد كبير من الأسرى تحدثت اليهم " الشرق الأوسط "، فأن " العصافير " هم الذي يقومون بالدور الحاسم في استدراج الأسرى للإعتراف بما تنسبه اليهم المخابرات الاسرائيلية.
لكن الى جانب كل ذلك فأن العملاء لعبوا دوراً هاماً في دفع المشاريع الاستيطانية في الضفة الغربية والتهويدية في القدس المحتلة. جهاز المخابرات العامة الفلسطينية شن في الفترة بين العامين ست وتسعين والفين حملة شاملة على العشرات من سماسرة الأراضي من الفلسطينيين الذين كانوا يقومون بتزييف وثائق أراضي تعود لفلسطينيين غائبين أو متوفين، وبعد ذلك يقومون ببيعها لجمعيات يهودية وتهويدية. وقد كان القاسم المشترك لهؤلاء السماسرة هو أنهم جميعاً عملاء مرتبطين بجهاز " الشاباك ". ولعل احدث قضية تكشف عن دور العملاء في دفع المشاريع الاستيطانية، ما كشف عنه العميل محمد مرقة من بلدة " سلوان " الذي اجرت معه صحيفة " هارتس " الاسرائيلية قبل اسبوعين مقابلة مطولة كشف النقاب فيها عن دوره في تزويد جمعية " عطيرات كوهنيم " اليهودية التي تنشط في مجال تهويد مدينة القدس ومحيطها، بمستندات ووثائق خاصة بمنازل وعقارات فلسطينية في بلدة "سلوان "، والقدس الشرقية. لكن هناك اهداف اخرى سعت إسرائيل لتحقيقها من خلال تجنيد العملاء:
1-زعزعة ثقة الفلسطينيين بقضيتهم: كما يقول جدعون عيزرا، النائب السابق لرئيس جهاز المخابرات الاسرائيلي الداخلية " الشاباك"، فإن مجرد اكتشاف الفلسطينيين لقدرة " الشاباك" على تجنيد عملاء في صفوفهم كفيل، بزعزعة ثقتهم بالقضية والمقاومة الفلسطينية. في حين يقول حاييم بن عامي، الرئيس السابق لقسم التحقيقات في " الشاباك"، " نجاحنا في اختراق التنظيمات الفلسطينية عبر تجنيد عملاء لنا من بين عناصرها، له بالغ الأثر في سيادة أجواء عدم الثقة في أوساط عناصر المقاومة، بشكل يجعلها أقل كفاءة.
2-محاولة التأثير على أجندة المجتمع الفلسطيني، بما يتوافق مع المصلحة الإسرائيلية، حيث كان للعملاء دوماً أثر في إثارة الفتن الداخلية بين الفلسطينيين، فضلاً عن تداول الشائعات التي هي جزء من الحرب النفسية التي تخوضها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.
3-تجنيد أكبر عدد من العملاء جاء لتحييد اوسع قطاعات من الشباب الفلسطيني، وإبعادهم عن صفوف المقاومة.
آليات التجنيد
منذ أن احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة في العام 1967، أصبحت تتحكم في كل مناحي الحياة للفلسطينيين، فحصول الفلسطيني على تصريح للعمل، أو العلاج، أو إذن بالسفر للخارج من أجل الزيارة أو مواصلة التعليم كان مرهوناً فقط بموافقة سلطات الاحتلال. في نفس الوقت كانت هذه السلطات منذ العام سبع وستين وحتى تشكيل السلطة الفلسطينية في العام اربع وتسعين، هي الجهة المسؤولة عن استيعاب عشرات الالاف من الفلسطينيين في سلك التعليم والصحة وقطاع الخدمات. إسرائيل لم تتوان للحظة في إستغلال ما تتمتع به من نفوذ من أجل مساومة الكثير من الفلسطينيين وإبتزازهم من أجل دفعهم الى التعاون مع مخابراتها. صحيح أن المخابرات الإسرائيلية فشلت في إبتزاز معظم الذين حاولت مساومتهم على أن يصبحوا عملاء لها، إلا ان احتكارها للقوة والنفوذ دفع الكثير من ضعاف النفوس للسقوط في براثن العمالة، وأصبحوا أدوات رخصية وطيعة في أيدي عدوهم. إنحطاط المعايير الأخلاقية للمحتل جعله يستخدم وسائل قذرة في تجنيد العملاء من بين الفلسطينيين، وكما بات معروفاً الآن، فقد عمد " الشاباك"، على استدراج الشباب الفلسطيني الى ممارسات غير أخلاقية، حيث يتم تصويرهم في أوضاع مشينة، وبعد ذلك يقوم عناصر " الشاباك"، بتخييرهم بين العمالة، أو فضح أمرهم. وقد دلت التحقيقات التي أجرتها الأجهزة الأمنية الفلسطينية، فضلاً عن التحقيقات التي أجرتها فصائل المقاومة الفلسطينية مع مئات العملاء عن أن هذه الطريقة هي الأكثر شيوعاً في تجنيد العملاء. ويجمع كل الذين تعاملوا مع ملف العملاء على أن الحصول على مماسك اخلاقية، وبالذات جنسية على الشباب الفلسطيني توظف من قبل ضباط المخابرات الاسرائيلية في دفع الشباب الفلسطيني. فعلى سبيل المثال نقدم قصة " ن ج " هو أحد عناصر الأمن الوطني الفلسطيني، من عائلة تسكن في المنطقة الوسطى من قطاع غزة، ومعتقل في سجون السلطة في غزة بعد اعترافه بالتعامل مع المخابرات الاسرائيلية. التقينا " ن ج " في السجن ليتحدث عن طريقة اسقاطه. يقول " ن ج " أنه في العام 2000 انضم للأمن الوطني الفلسطيني،فقررت قيادة الامن الوطني ارساله الى العمل في منطقة " بيت لحم " في الضفة الغربية. فكان عليه، كما هو الحال مع جميع عناصر الأمن الوطني الذين سينتقلون للعمل في الضفة أن يحصلوا على تصريح للسفر للضفة. ويضيف " ن ج " أنه توجه الى مكتب الارتباط العسكري الاسرائيلي في حاجز " ايرز " الذي يصل شمال القطاع باسرائيل، ليحصل على التصريح هناك. قام الجنود بادخاله الى مكتب كبير، حيث كان شاب يلبس الزي المدني ينتظره، وبعد ان قام بتعريفه على نفسه بأنه " الكابتن جمي " من جهاز المخابرات الاسرائيلية، عرض عليه أن يتعاون معه من أجل " الحفاظ على السلام من الحركات المتطرفة في الجانبين ". لم يتلق " الكابتن جمي " من " ن ج " اجابة بسرعة، ولم يحاول اسثتمار جهد في اقناعه، فخرج من المكتب، وبعد خمس دقائق دخلت مجندة حيث قامت ببعض المداعبات الجنسية ل " ن ج "، وبعد ذلك خرجت. وعلى اثرها دخل " الكابتن جمي "، وهو يقهقه، وكان يحمل بعض الصور التي كانت تظهر " ن ج "، وهو يتلق المداعبات الجنسية من المجندة. كان " جمي " صارماً في حديثه ل " ن ج " : إما أن توافق على التعاون معنا، وأما نقوم بنشر هذه الصور في .....( احد مسكرات اللاجئين يقطن فيه ن ج ). يقول " ن ج " انه وافق بدون تردد على عرض " جمي ". وهكذا شرع هذا الشاب البائس الذي لم يحصل حتى على الشهادة الابتدائية في طريق قاده الى احد الزنازين المظلمة في سجن " السرايا ". واعترف أنه جمع المعلومات الاستخبارية وفق تعليمات " جمي " وبعد ذلك " الكابتن مئير "، وتدرج في تنفيذ المهام الاستخبارية لدرجة أنهم قاموا بإرساله لتصفية أحد المقاومين الفلسطينيين في إحدى بلدات جنوب الضفة الغربية، ولم ينجح لحدوث طارئ حال دون وجود الهدف في المكان الذي كان من المقرر أن تتم فيه عملية الاغتيال. وتحدثنا داخل السجن مع خمسة من عناصر الامن الوطني الذين تم جرهم للعمالة بطريقة الابتزاز الجنسي، وهي طرق لم يكن لتنطلي على شخص يتمتع بأقل قدر من الذكاء والوعي، لأن ضابط المخابرات لن يقوم بنشر هذه الصور.