الجواب:
يوم يقف الناس بالمحشر يقفون
مدهوشين لهول الموقف فيسيطر الخوف على المجرمين فلا يتساءلون وتخرس الألسن
من الرهبة ولا احد يعنيه سوى مصيره وهذا انما يكون قبل تحديد المصير كما
يوضحه قوله تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ
بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ) (المؤمنون:101)
فرهبة
الحساب وعظمة نفخة الصور تتركهم كالمتجمدين فلا يتساءلون ويؤكد ذلك قوله
تعالى: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ
الْمُرْسَلِينَ {القصص/65} فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ
فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ {القصص/66})
فعدم التساؤل يكشف عن مدى الرعب
وخطورة الموقف والآية الكريمة تصور ذلك المشهد الرهيب إذ تقول: (فَإِذَا
جَاءتِ الصَّاخَّةُ {عبس/33} يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ
{عبس/34} وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ {عبس/35} وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ {عبس/36}
لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ {عبس/37}
اما
حين ينتهي الحساب ويتقرر المصير ويؤخذ المجرمون لمصيرهم الأسود فتبدأ
مرحلة التلاوم فيعتب كل منهم على الآخر لكونه سببا في الضلال أو مساعدا
عليه كما يقول تعالى: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ)
(القلم:30) وهنا يأتي دور التساؤل لقوله تعالى: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ
عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ) (الصافات:27) (الطور:25) وقوله تعالى:
(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ) (الصافات:50)
احجية النطق : جواب: حين يصطف الناس يوم المحشر للحساب يصيبهم ذهول
عظيم كردة فعل طبيعية لمواجهة موقف عصيب كما أسلفنا كما أن ثبوت الجريمة
لا يحتاج لفتح تحقيق ومسائلة ومن هنا لا مجال للكلام والحديث من اجل تمحيص
صحة التهمة أو بطلانها أي أن إثبات الجريمة لا يفتقر لسماع المجرم لوضوح
ذلك عند الله فالأيدي والأرجل تشهد على الفعلة )الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يّـس:65)
فليس لهم نطق يبرئ ساحتهم مما ارتكبوه بمعنى أن
العقوبة واقعة لا محالة ما لم يعفو الله سبحانه لذلك (وَوَقَعَ الْقَوْلُ
عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) (النمل:85) (هَذَا
يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) (المرسلات:35) (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ
فَيَعْتَذِرُونَ (المرسلات:36)
فإذا كان للإنسان في الدنيا أن يدلس الحقائق ويخفي
جريمته أمام المحكمة الدنيوية لتظهر براءة ذمته وإذا أتيح له أن يناور
ويجادل ليقنع القاضي بنفي التهمة فان هذا التملص وهذه المراوغة غير متاحة
في يوم الحساب العسير.
فليس المقصود تعطيل الألسن عن الكلام بشكل نهائي بل
هناك مجال واسع للحديث بل وتقديم الاحتجاج في مرحلة ما, ليس من اجل
التحقيق ومعرفة الحق من الباطل بل لان (لله الحجة البالغة) ولتبيان عدالة
المحكمة ويأتي في هذا الإطار قوله تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ
تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ
لاَ يُظْلَمُونَ {النحل/111})
ويفتح للمجرمين المجال للتعبير عن أسفهم وعظم ندامتهم
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا
مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا
مِنَ الْأَسْفَلِينَ {فصلت/29})
(وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ
فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا
وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {الأنعام/27})
(وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ
مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا
الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا
وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا
{الكهف/49})
والنطق ليس مفتوحا ولا مسموحا به إلا بإذن الله سبحانه
وفي هذا زيادة هيبة وخشية من ذلك الموقف الرهيب فلا كلام لإثبات البراءة
ولكن يسمح في مواطن للكلام للتعبير عن الندامة كما تقدم (إِنَّ فِي ذَلِكَ
لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ
النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ {هود/103} وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ
لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ {هود/104} يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ
بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ {هود/105})
والملائكة أيضا لا يتكلمون بدون إذن (يَوْمَ يَقُومُ
الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ
لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا {النبأ/38})
وربما سمح بالنطق للمجرمين لمجرد إعطاء فرصة للكلام
مما يفضح سوء سريرة المجرم وممارسته للكذب حتى في مثل يوم المحكمة العادلة
(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ
أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ {الأنعام/22} ثُمَّ
لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا
كُنَّا مُشْرِكِينَ {الأنعام/23} انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى
أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ {الأنعام/24})
(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ
لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ
أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ {المجادلة/18})
دورت على احجية الخلق وما حبيت افتي فيها