تحل الذكرى الرابعة لاستشهاد القائد الرمز والمؤسس التاريخي ياسر عرفات، وما بين الغياب وحضور الذكرى يقف الزمن مشدودا إلى الفكرة التي عثرت على جسمها وأرضها هنا، و اكتست لحما ودما متعافية من المنفى ومن ظلال الكلمات.
ياسر عرفات قلب الأسطورة وتقاليد الخيال العسكري عندما حول العدو الذي لاحقه إلى شريك، وهو الحائز على جائزة نوبل للسلام لأنه اقنع الخرافة والوهم الإسرائيلي أن المسدس لا يحول الجلاد إلى بطل وضحية في ذات المكان.
أعادنا هوية واسما إلى جوار القدس، وأذن للصلاة مستعينا بكل الأنبياء والشهداء وما على هذه الأرض من زيتون وحكايا وعطش إلى عدالة التاريخ للتحرر من عقدة وفساد الاحتلال.
أبو عمار وضع حدا للعبث السياسي، لتعدد المطارات وأوجاع الغربة وشرائع موازين القوى المتحولة، ليمسك بالحقيقة الصعبة هنا، ليكتب الحكاية على ارض الحكاية، ويتجدد في ذاكرة جماعية تتضح كل يوم عن طقس وعرس متماهيا مع المعجزة في زفاف الشهداء.
كانت العرفاتية مزدحمة بالشعب الفلسطيني، بينما الصهيونية خالية من هذا الشعب، وجها لوجه مع البراهين واللغة وكوشان الميلاد وصوت المستقل.
ظل يفاوض وهو يرتدي بزته العسكرية، لان شارون لم يستطع أن يقيم علاقة طبيعية مع ذاته، محتفظا بسيف جلعاد وعقدة الجيتو، يخشى السلام مع رجل لا يملك سوى مليون شجرة زيتون وكوفية رقطاء.
كان يقول: لا يحق لاسرئيل أن تطرد سورة الإسراء من صلاتنا وتمحو خطوات المسيح إلى نهاية الألم.
لقد تحصن بالمقاطعة حتى تظل القضية مفتوحة على كل الخيارات، فالتاريخ عند عرفات ممتلئ بالغد، وفي كل اشتباك له رواية، وفي كل رواية كان يخشى من أي حل نظري.
والآن نفتقد معادلة ياسر عرفات، المفاوضات والمقاومة، الحق الأخلاقي الإنساني وعدم استسلام المقاطعة للحصار، وكأن نشيده العالي في الذهاب بعيدا إلى أقصى ما يحول الاحتلال عبئا على المحتلين قد تلاشى.
خرج عرفات من الحصار، شهيدا ملفوفا بالعلم والابتسامة والإيمان، ونحن دخلنا الحصار عميقا كأننا لم نستمع إلى ذلك النشيد، ولم نقطع المسافة بجدارة بين موت طبيعي بكرامة وموت بارد، نتعثر بين الجوع والمستوطنة.
هو لم تبهره الرموز والشكليات، ولم يخدعه جواز السفر وقانونا لم يتحول إلى دستور، ظل مشغولا في تعبئة الجسد بالمهارات التي تستعيد الصوت من ظلمة السجن، حذرا من مكر النهاية، ومن التكيف مع أضواء مسرح يخلو من شرعية المتفرجين.
أن غياب ياسر عرفات أضاع الحدود بين هنا وهناك، القدس صارت بعيدة ،وهو الوحيد الذي علمنا أن لا نتكيف مع الأمر الواقع، أن نشعل النار في هدوء اليائسين.
هو قائدنا في الأرض وظلنا في السماء، لا زال فينا يدربنا أن نضع على كل حجر غيمة، وان نواصل الحلم بالفعل، وألا يفلت من أيدينا الزمن حتى لا يتأخر الشتاء.
أربع سنوات مرت، نقف على قبره الجليل، نقرأ خطواتنا القادمة عليه، نشكوه عودتنا إلى البدائية، منقسمين جوا وبحرا وفكرا، صار الوطن صغيرا والموت يتعدد بلا معنى.
أعيدوا ياسر عرفات إلى حياته في المجاز،أزيلوا السم من جسده المزدحم بالفعل، سوف يغضب على ذاكرة جماعية تمزقت على شواطئ قطاع غزة على يد صيادين جاءوا من الظلام لا يفهمون لغة البحر والوحدة.
أعيدوه ممارسة كي يرفع يده غاضبا، يقلب الطاولة على من أراد أن يحولنا إلى حراس على سلامة تل أبيب وقطعان المستوطنين المعربدين في خليل الرحمن.
أعيدوه كي يكمل سيد التاريخ حركته اللانهائية، ودعوه يحاسبنا على ما فعلنا بأنفسنا، واحدا واحدا، ويضعنا جميعا أمام سؤال الهوية والدفاع عن وجودنا الوطني.
أعيدوا ياسر عرفات ولا تخبروه أن محمود درويش قد غادر الدنيا وهو يهتف: أن الذكرى تلي الحرب والموت والزلزال دائما.