ازدهرت الترجمة الدينية في عصر متأخرٍ نسبياً مع فكرة التبشير المسيحي في المستعمرات التابعة للدول الأوروبية في أقطار بعيدة جداً عن مصادرها. ويمكن القول إن الهدف الاستعماري ترافق مع الهدف الديني التبشيري، وقد ساعدت ترجمات "الكتاب المقدس" علي إنشاء قطاع من معتنقي المسيحية في البلدان الواقعة تحت نيران الاستعمار، ولاسيما في القارة الإفريقية. وتبيّن للكثير منهم بالتدريج أن ثقافتهم الدينية الجديدة تقربهم من الدول المستعمرة كما أن هذه الدول رأت فيهم أيضاً ركيزة لتثبيت استعمارها وإلحاق أوطانهم بالدول الأوروبية، وقد اختارتهم للوظائف الحساسة في الحكومة كما سهلت لهم البعثات الدراسية إلي عواصم ومؤسسات الدول المستعمِرة. وكان معظم المترجمين الرسميين الموثوق بهم من التابعين إلي مذهب الدولة المستعمِرة، مما أدي إلي نشوء حركة ترجمة من اللغات الأوروبية إلي لغات العالم الثالث ولا سيما إلي اللغة العربية.
علي أن هذا الحكم ليس قاطعاً ففي حالات غير قليلة، ولا سيما خلال بروز موجة التحرر الوطني انحاز المستنيرون من المثقفين المسيحيين بالذات إلي الحركة الوطنية، بل كانوا بفضل إتقانهم لغة المستعمِر هم الأقدر علي معرفة نقاط الضعف لدي السلطات الاستعمارية القمعية، ثم قاموا فيما بعد بدور ملموس في لفت انتباه الرأي العام العالمي إلي فظائع الاستعمار إبان مرحلة التحرر الوطني وكانوا الأقدر علي ذلك (فلسطين هي أوضح مثال)، كما أن الكثيرين منهم قاموا في وقتٍ مبكر جداً بعبء الترجمة إلي العربية من اللغات الأوروبية وأحيانا من لغات الشرق، كما أسهم رجال الدين المسيحيون في الترجمات الدينية وغيرها، ولا سيما من اللغات اليونانية والفرنسية والروسية والإنكليزية. ثم إن تدريس اللغات الأجنبية في بلدان المستعمرات كان حكراً علي النصاري حتي بعد جلاء المستعمر ولفترات طويلة.
وتفيد دراسات الترجمة أن الكتاب المقدس (العهد القديم والجديد) تُرجم إلي معظم لغات العالم، حتي اللغات البدائية، ويحتلّ المرتبة الأولي من دون منازع في تصنيف قوائم الترجمات التي انتشرت في أنحاء العالم حتي يوم الناس هذا، وذلك حسب إحصاءات اليونسكو من خلال دليلها الرسمي Index Translationum. ولا ننسَ أن معظم مترجمي الخلافة الإسلامية منذ عهد المأمون كانوا من السريان النصاري، يضاف إلي كل ذلك أن ترجمات الكتاب المقدس انتشرت في اللغات الأوروبية منذ القرن السادس عشر من خلال المنافسة بين المذاهب المسيحية وكانت إرلندا هي الأكثر نشاطاً في إرسال المبشرين المذهبيين إلي المناطق الأوروبية المختلفة. وحتي الآن تتوالي طبعات الكتاب المقدس بلغات الأقليات فيما يسمي بالعالم الثالث. وبالطبع تنتشر الكتب الأخري التبشيرية والتفسيرية انتشاراً واسعاً في أرجاء الأرض من خلال لغاتٍ مختلفة، وتحرص الطبعات الجديدة دائماً علي تفادي الأخطاء في الترجمات المبكرة أو علي تصحيح بعض العبارات التي لا تؤدي المقاصد.
ومن أطرف ما يروي بهذا الصدد ما حدث فعلاً من اكتشاف الفروق الكبري من ناحية الاستعمالات المجازية والإشارات المصاحبة للكلام والترجمة الحرفية للأمثلة، وذلك كله في ترجمات الأناجيل المبكرة ولا سيما في القارة الإفريقية، ومن أبسطها إيماءة الرأس إلي الأعلي علامةً لِلرفض وإلي الأسفل علامة الطاعة.
وهذه الإيماءات تختلف اختلافاً عكسياً فيما بين اللغات. ومن أطرف ما حدث في إحدي ترجمات "الكتاب المقدس" إلي إحدي اللغات الإفريقية استخدام عبارة "ربّت علي كتفه" بمعني الاستحسان طبعاً، ولكن هذه الحركة تعني في مناطق إفريقية "راوده عن نفسه". وقد نسبت العبارة إلي قسٍ رفيع المستوي، واكتشفت المشكلة فيما بعد، مما أدي بسببها وبسبب حالات مشابهة إلي حذف وإعادة الترجمة.
أما القرآن الكريم فهو يتصدر قائمة الكتب المترجمة من العربية إلي اللغات الأخري، وتتسع مروحة ترجماته بالتدريج لتشمل جميع لغات العالم تقريباً... إلا أن ترجمته ليست سهلة علي الإطلاق.
وشأنه شأن الكتاب المقدس من ناحية ظهور ترجمات جديدة تحاول أن تستدرك نواحي النقص في الترجمات السابقة. ولأسباب وجيهة درج مصطلح "ترجمة معاني القرآن". وتحتل هذه الترجمات مرتبة الصدارة المطلقة، إلي جانب الكتب الإسلامية الأخري، في قائمة الكتب المترجمة من العربية إلي اللغات الأخري. علي أن قائمة الترجمات الدينية تظل محدودة جداً من ناحية تنوع العناوين أي أن الكتاب نفسه يترجم إلي لغات متعددة، كما تظهر بين حين وآخر ترجمات جديدة تثير بدورها انتقادات واجتهادات.
وهنا يمكن أن تُذكر الترجمات المسيحية والإسلامية التي ظهرت بعد تفكك الاتحاد السوفياتي أواخر القرن الماضي وإحياء اللغات الأصلية لمنطقته السابقة، إلي جانب اللغة الروسية. كما جري في المناطق الإسلامية وفي إلغاء القيود عن المدارس الدينية التي أسهمت في تنشيط الترجمات الإسلامية ومعها استعادة اللغة العربية. ولا بد هنا من الاعتراف بوجود تقصير إسلامي عربي (كالعادة) في هذه المناطق وافتقار إلي الاستمرارية وتوحيد الجهود. ومن خلال تجربة شخصيّة أشير إلي الواقعة التالية التي تفسّر ضآلة التحرك الإسلامي والافتقار إلي الاتفاق علي الأولويات.
وخلاصة الحكاية أن كاتب هذه السطور كان يدير مكتباً للترجمة في مدينة دمشق أواخر القرن الماضي، وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي سارعت وزارة الأوقاف في دولة عربية بالمبادرة إلي خوض مجال الهداية الإسلامية من خلال منشوراتٍ دينية أريد لها أن تترجم إلي اللغة الروسية. تعاون المكتب مع هذا السعي الذي كان يلقي منافسة كبيرة في مجال التبشير الديني والمذهبي. وكانت الخطوة الأولي طبعاً هي إصدار ترجمة معاني القرآن إلي اللغة الروسية. وقد حاولنا إقناع المسؤولين عن هذا المشروع النبيل بالحرص علي البدء بكتيبات تعريفية ذات لغة مبسطة، وذلك لندرة وجود مترجمين مؤهلين إلي اللغة الروسية واللغات الأخري المجاورة لها في الموضوعات الدينية التي كانت قد أهملت تماماً.
وكانت المفاجأة أن وردنا من أجل الترجمة إلي الروسية وربما لغات أخري مجاورة كتيِّب مغرق في الفصاحة وعنيف اللهجة لأحد العلماء الأجلاّء البارزين في مجال الفتوي الدينية، وكان عنوان الكتيب "تكفير من لا يؤمن بالسنّة" وكان المحتوي عامراً بشواهد عريقة وقويّة، ولكن لهجته كانت حادةً تماماً وحاسمة... وبحثنا عن أي مترجم يستطيع أن يفهم كلام الشيخ الجليل ناهيك عن القدرة علي ترجمة لغته الفصيحة والمتينة... ولما يئسنا أرسلنا رسالة ودية جداً إلي إخوتنا في وزارة الأوقاف نرجو البدء بمنشورات مبسطة وتأجيل هذا الموضوع إلي فترة لاحقة... وكانت تلك نهاية الاتصال إذ لم يردنا بعد ذلك أي اقتراح أو تكليف.
تاريخ نشر الخبر : 10/08/2008
خواطر مهنية حول الترجمة الدينية (2)
--------------------------------------------------------------------------------
بقلم : د.حسام الخطيب (كاتب عربي ) .. يعدُّ اختلاف المذاهب من أبرز المشكلات في الترجمة الدينية لأن هذا الاختلاف يتحكم في طرق ترجمة النصوص الأصلية من اللغة المرسلة source language إلي اللغات المستهدفة target language.
ولكن حتي ضمن هذه الاختلافات توجد تفاسير متباينة للنص الواحد وأحياناً يصعب علي المترجم اتخاذ القرار المناسب بشأن ترجمة النص، لأن مثل هذا القرار يرتّب مسؤولية علي المترجم حتي لو أخذ بنصيحة مرجع ديني ما.
واختلافات رجال الدين معروفة في جميع الأديان. وهناك أيضاً مشكلة اختيار اللغة المناسبة لحُرمة النص الديني والموازنة بينه وبين بساطة المتلقي الذي لم يتعمق بعدُ في أصول الدين.
ومن الصعوبات الأخري يمكن أن نذكر سهولة توجيه الاتهامات للمترجم حين لا تروق تأديته لأصحاب النص الأصلي. ولذلك ينبغي الحذر الشديد عند ترجمة الكتب الدينية.
وهناك مشكلة أخري هي مشكلة المغامرة الفردية في الترجمة الدينية. فمثلاً في القرآن الكريم بدأت الترجمات الأولي علي يد المسلمين من غير العرب واستمرّت زمناً طويلاً، وفي أيامنا هذه نسمع بترجمات جديدة للقرآن الكريم، علي يد من هو عربي ولكن غير مسلم، كما حدث في فرنسا. ومن حيث المبدأ لا يوجد مانع من ذلك، إلا أنه في هذه الحالة لا تكفي المعرفة اللغوية والدينية السطحية وإنما لا بدّ من التعمق بالأصول الدينية. وقد لقيت هذه الترجمة اعتراضات شديدة.
ومن أغرب ما سمعته منذ مدة، هو حديث في إحدي محطات التلفاز لمترجمة عربية حول طريقتها في ترجمة القرآن الكريم إلي الفرنسية، وكان مُحاورها علي التلفاز يلقي عليها الأسئلة باللغة الفصيحة كما يقتضي المقام، وهي تجاوبه بعامية مغرقة، وقد كالت لغيرها من المترجمين اتهامات مقذعة. وهذا باب لا يمكن إيقافه إلا بإصدار ترجمة قرآنية معتمدة، تُجمع عليها المراجع الدينية. وهناك من يفرق بين الترجمات السنية والشيعية، والله أعلم.
علي أن هذه الحكاية تقودنا إلي مسألة الاختيارات اللغوية في الترجمات الدينية، ذلك لأن معظم الكتب الدينية تميل إلي اللغة العليا الفصيحة. ولكن هذه الترجمات موجهة إلي جمهور غفير متفاوت لغوياً وقد يكون أُميّاً وهذه الصعوبة تتمثل في الترجمة القرآنية. لأن الإعجاز اللغوي هو جزء من عظمة القرآن الكريم. فكيف يستطيع إنسان غير قادر علي إجراء محادثة تلفازية باللغة العربية أن يزعم أنه أصدر أحدث ترجمة قرآنية إلي اللغة الفرنسية.
وبالمناسبة سمعتُ من دارسين غربيين يحترمون الإسلام ، آراء تحث علي إصدار ترجمات مبسطة أو مختصرة. بل عاصرت ترجمة إلي الإنكليزية قام بها في منتصف خمسينات القرن الماضي أستاذي في جامعة كامبردج البروفيسور آربري A.J.Arberry وقصد بها أن تحافظ علي جمال اللغة ببساطة آياتها وحاول أن تكون مقسمة نسبياً حسب الموضوعات، وأيضاً في تسويقها تجارياً. وقد نجحت هذه الترجمة نجاحاً تجارياً في إبانها وأعيدت طباعتها في بريطانيا عدة مرات كما ذكرنا في مقال سابق. وتشبه هذه الترجمة المبكرة ترجمة جاك بيرك الحديثة، التي أعاد فيها تصنيف السُوَر والآيات حسب الموضوعات أي علي الطريقة الغربية الحديثة.
ولم أتابع الآراء المرجعية في هذا الموضوع، ولكنني بصراحة رأيت فيه مدخلاً لإثارة الاهتمام بالإسلام إذا كان غير خارج عن حدود الدين، ولا سيما في هذا العصر الذي أصبح فيه الإسلام موضع أخذٍ وردٍ وتكالبت عليه اتهامات الدول الظالمة بل عاداه الغرب بأكمله من الدانمارك إلي هولندا إلي الولايات المتحدة، حيث تعجُّ المكتبات بكتب قبيحة وفاجرة حول الديانة الإسلامية وخطر الإسلام علي العالم. وفي بعضها تدقيق تاريخي خطير.
وهذه مسألة محيّرة فعلاً. والمخاوف التي يبديها رجال الدين من ناحية أنها ستكون خطوة للفساد والإفساد، هذه المخاوف لها ما يسوّغها مثلما أن دعاة الترجمات المبسطة يعتقدون أنها طريقة سليمة لاجتذاب الجمهور غير الناطق باللغة العربية إلي الاهتمام بمعرفة حقيقة الرسالة الإنسانية التي ينادي بها الإنسان، كما أنها قد تكون مدخلاً لمحبة القرآن الكريم ووسيلة أيضاً للدفاع عنه في مجابهة حملات التشويه والافتراء. وأياً كان الاختيار يظل من الواجب علي المسلمين أن يخاطبوا ضمائر الآخرين بالوسائل الناجعة... ولنبقَ في مجال الترجمة من خلال منظور دولي.
وهنا نتذكر أن اللغة الإنكليزية تحتل المرتبة الأولي بين اللغات المرسِلة (بكسر السين). وكذلك تحتل قصب السبق في اجتذاب غير الناطقين بها إلي درجة يمكن القول إنها أوسع لغات العالم انتشاراً خارج البلدان من غير الناطقين بها.
وهذه حقيقة عامة يعرفها معظم الناس. ولكن الذي قد يجهله كثيرون هو كون إرلندا رائدةً في نشر الترجمات الدينية منذ مطالع العصر الحديث. وفي تلك الفترة المبكرة كان المبشرون الإرلنديون يجوبون أقطار أوروبا لنشر الأناجيل وافتتاح الكنائس حيثما وجدوا ثغرة في الانتماء المسيحي المذهبي.
وإذا أضفنا إلي ذلك أن إرلندا هي بلد صغير محدود الموارد قد لا نفاجأ إذا عرفنا أن الهجرة الدينية إلي خارج الجزر البريطانية وإلي الأمريكتين بوجه خاص فتحت الأبواب أمام هجرات متتالية جمعت بين الدافع الاقتصادي والدافع الديني.
ويقول التاريخ إن أكبر موجات الهجرة ابتدأت في القرن التاسع عشر واستمرت حتي أوائل القرن العشرين وكان الحدث الحاسم فيها هلاك نصف سكان أيرلندا إبان المجاعة الكبري (1845)، مما أدي إلي هجرات كبري غالباً باتجاه مناطق اللغة الإنكليزية. وظلت الترجمة ملاذاً للإرلنديين في تلك المناطق.
وصاحبَ النشاطَ الترجمي الديني والتربوي نشاطٌ أدبي جمالي تمثل في أدباء عظام مثل جيمس جويس وصامويل بكيت). وفي هذه الفترة بدأت تلتمع صورة الإبداع الأدبي الأيرلندي الذي كان فاتحة الهوية المقبلة للنتاج الأدبي في أيرلندا والشتات. وامتدّ قوس الهجرة ليشمل معظم أنحاء العالم حتي وصل إلي أستراليا وإفريقيا والأرجنتين وغيرها... والمهم أن الصلة ظلت قوية بين الوطن والشتات، وتذكرنا هذه الرابطة بالحالتين الفلسطينية واللبنانية.
وفي تسعينات القرن العشرين أخذ هذا التلاحم منحي رسمياً واضحاً إذ أعلنت رئيسة بولندا ماري روبنسن بمنتهي الوضوح فكرة الدولة/الأمة الإرلندية شاملة للوطن والشتات. وهنا أودّ أن أذكر أن مصطلح الشتات مصطلح مألوف في الحالة الفلسطينية.
وكذلك ضمّ معرض فرانكفورت للكتاب سنة 1996، النتاج الإيرلندي تحت عنوان "إيرلندا وشتاتها".
والشيء العظيم في التجربة الإرلندية هو نجاح إرلندا في أن تصبح مركزاً دولياً في صناعة البرمجيات، وكان ذلك عن وعي وتصميم وتماسك وطني اجتماعي ديني. حتي أن معظم شركات البرمجيات تتخذ من إرلندا مقراً لها، كما أن السلطات التعليمية كانت واعية لهذه الحالة، إذ وجهت التعليم بأكمله نحو إتقان مسائل ووسائل الاتصال الألكتروني.
http://coptreal.com/ShowSubject.aspx?SID=8711ديشا
11-04-2008, 06:54 PM
بسم الله ماشاء الله
ده كلام عالى اوى علينا اختنا مسلمه
بارك الله فيكى ونظرا لضيق وقتى قرأت بعض اللمحات من مقالتك والتى اردتى نقلها من موقع
مسيحى فى اطارنشر او ترعيف دور الترجمه وحركاتها والى اى حد كانت مطلوبه ومستهدفه
فى الاستعمار وغيره مما اردتى فىمقالتك
هذا بجانب بعض المعلومات الجديده التى اضافها
الدكتور حسام الخطيب فى المقاله الثانيه
والى الان اختنا مسلمه نتطلع الى المزيد من مقالاتكم المميزه حتى وان كانت منقوله بهدف التعريف
عن اللغات او عن نشاتها واصولها واهميتها
جزاك الله خيرا
وفققك الله فى مساعيك الفكريه والتعليمية