بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الطهارة
باب في أحكام الطهارة والمياه
إن
الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين ، وهي الفارقة بين المسلم والكافر ، وهي عمود الإسلام ، وأول ما يحاسب عنه العبد ، فإن صحت وقبلت قبل سائر عمله ، وإن ردت رد سائر عمله .
وقد ذكرت الصلاة في مواطن كثيرة من القرآن الكريم على صفات متنوعة ، فتارة يأمر الله بإقامتها ، وتارة يبين مزيتها ، وتارة يبين ثوابها ، وتارة يقرنها مع الصبر ، ويأمر بالاستعانة بهما على الشدائد .
ومن ثم كانت قرة عين الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا ، فهي حلية النبيين ، وشعار الصالحين ، وهي صلة بين العبد وبين رب العالمين ، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر .
ولما كانت هذه الصلاة لا تصح إلا بطهارة المصلي من الحدث والنجس حسب القدرة على ذلك ، وكانت مادة التطهر هي الماء ، أو ما يقوم مقامه من التيمم عند عدم الماء ، صار الفقهاء رحمهم الله يبدءون بكتاب الطهارة ؛ لأنها لما قدمت الصلاة بعد الشهادتين على غيرها من بقية أركان الإسلام ، ناسب تقديم مقدماتها ، ومنها الطهارة ، فهي مفتاح الصلاة كما في الحديث :
مفتاح الصلاة الطهور ؛ وذلك لأن الحدث يمنع الصلاة ، فهو كالقفل يوضع على المحدث ، فإذا توضأ انحل القفل .
فالطهارة أوكد شروط الصلاة ، والشرط لا بد أن يقدم على المشروط .
ومعنى الطهارة لغة : النظافة والنزاهة عن الأقذار الحسية والمعنوية ، ومعناها شرعا : ارتفاع الحدث وزوال النجس ، وارتفاع الحدث يحصل باستعمال الماء مع النية في جميع البدن إن كان حدثا أكبر ، أو في الأعضاء الأربعة إن كان حدثا أصغر ، أو استعمال ما ينوب عن الماء عند عدمه أو العجز عن استعماله - وهو التراب - على صفة مخصوصة ، وسيأتي إن شاء الله بيان لصفة التطهر من الحدثين .
وغرضنا الآن بيان صفة الماء الذي يحصل به التطهر ، والماء الذي لا يحصل به ذلك ، قال الله تعالى :
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ، وقال تعالى :
وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ، والطهور هو الطاهر في ذاته ، المطهر لغيره ، وهو الباقي على خلقته - أي : صفته التي خلق عليها - ، سواء كان نازلا من السماء كالمطر وذوب الثلوج والبرد ، أو جاريا في الأرض كماء الأنهار والعيون والآبار والبحار ، أو كان مقطرا .
فهذا هو الذي يصح التطهر به من الحدث والنجاسة ، فإن تغير بنجاسة لم يجز التطهر به من غير خلاف ، وإن تغير بشيء طاهر لم يغلب عليه فالصحيح من قولي العلماء صحة التطهر به أيضا .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " أما مسألة تغير الماء اليسير أو الكثير بالطاهرات كالإشنان ، والصابون ، والسدر ، والخطمي ، والتراب ، والعجين ، وغير ذلك مما قد يغير الماء ، مثل الإناء إذا كان فيه أثر سدر أو خطمي ، ووضع فيه ماء فتغير به مع بقاء اسم الماء ، فهذا فيه قولان معروفان للعلماء " .
ثم ذكرها مع بيان وجه كل قول ، ورجح القول بصحة التطهر به ، وقال : " هو الصواب لأن الله سبحانه وتعالى قال :
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ، وقوله :
فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً نكرة في سياق النفي ، فيعم كل ما هو ماء ، لا فرق في ذلك بين نوع ونوع "
انتهى .
فإذا عدم الماء ، أو عجز عن استعماله مع وجوده ، فإن الله قد جعل بدله التراب ، على صفة لاستعماله بينها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته ، وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله في بابه .
وهذا من لطف الله بعباده ، ورفع الحرج عنهم ، قال تعالى :
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا .
قال ابن هبيرة : " وأجمعوا على أن الطهارة بالماء تجب على كل من لزمته الصلاة مع وجوده ، فإن عدمه فبدله لقوله تعالى :
فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ، ولقوله تعالى :
وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ " انتهى .
وهذا مما يدل على عظمة هذا الإسلام ، الذي هو دين الطهارة والنزاهة الحسية والمعنوية ، كما يدل ذلك على عظمة هذه الصلاة ، حيث لم يصح الدخول فيها بدون الطهارتين : الطهارة المعنوية من الشرك ، وذلك بالتوحيد وإخلاص العبادة لله ، والطهارة الحسية من الحدث والنجاسة ، وذلك يكون بالماء أو ما يقوم مقامه .
واعلم أن الماء إذا كان باقيا على خلقته ، لم تخالطه مادة أخرى ، فهو طهور بالإجماع ، وإن تغير أحد أوصافه الثلاثة - ريحه أو طعمه أو لونه - بنجاسة فهو نجس بالإجماع ، لا يجوز استعماله ، وإن تغير أحد أوصافه بمخالطة مادة طاهرة - كأوراق الأشجار أو الصابون أو الإشنان والسدر أو غير ذلك من المواد الطاهرة - ، ولم يغلب ذلك المخالط عليه ، فلبعض العلماء في ذلك تفاصيل وخلاف ، والصحيح أنه طهور يجوز التطهر به من الحدث ، والتطهر به من النجس .
فعلى هذا يصح لنا أن نقول : إن الماء ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : طهور يصح التطهر به ، سواء كان باقيا على خلقته ، أو خالطته مادة طاهرة لم تغلب عليه ، ولم تسلبه اسمه .
القسم الثاني : نجس لا يجوز استعماله ، فلا يرفع الحدث ، ولا يزيل النجاسة ، وهو مما تغير بالنجاسة .
والله تعالى أعلم .