العاهرات والعصافير ( العملاء داخل السجن)
الكاتب : د . سمير محمود قديح
إن هذه الحكاية هي إحدى حكايات آلاف المخدوعين ، و قصة من قصص ألوف من الضحايا الذين لم تجد مآسيهم من يسطر أحداثها إلا القليل ، و إن اشتركوا مع صاحب القصة في ضرب رؤوسهم بالجدران ، وفي صوت بكائهم يقطع صمت الزنازين بعد أن يقطع نياط القلوب . ولو كانت المأساة نتيجة ضعف الوعي الأمني لكان العلاج سهلاً ، لكن و كما سنرى في هذه الحكاية أن الأمر أبعد من ذلك ، لذا فإنني أرى علاجه من زاوية أشمل تضيف الى البعد الأمني بعداً آخر هو البعد الإيماني و يتركز في ضرورة مجاهدة النفس و تدريبها على الجوع بالصيام و السهر بالقيام و العزلة بالخلوة بالرب و التفكر في خلقه ، و الصمت بضبط اللسان و التخلص من آفاته . و لعل أبرز آفات اللسان هي إفشاء السر ، فما الذي يدفع الأخ على إفشاء سر أخيه أو إخوانه ، بغض النظر إن كان لحق بهم ضرر أو لم يلحق. و لقد أعجبني الوليد بن عتبة في وصيته عندما قال : ' من كتم سره كان الخيار إليه، و من أفشاه كان الخيار عليه '، و عليه فإن إفشاء السر خيانة إن كان فيه ضرر ، و لؤم إن لم يكن فيه ضرر . فما الذي يدفع الأخ أن يكون لئيماً على الأقل أو خائناً أو غبياً مغبوناً ، وهو يقدم الأسرار في جلسة ودية أو تحت ضغط ؟ و ماذا ينتظر الأخ الأسير من أمور تقنعه بعدم إفشاء أسراره أو أسرار إخوانه ؟ هل ينتظر حتى يكون موجهاً أمنياً يعظ الناس في أمر العصافير أو المنافقين حتى يضبط لسانه ؟ و الغريب أن البعض كان يقوم بهذا الدور و مع ذلك وقع ، هل ينتظر حتى يرى مسلسلات في موضوع تصرفاتهم … ثم ما الذي يمنع أن يطوّروا وسائلهم فماذا سيكون رده ؟ . إن بيت القصيد يتركز في أن يشغل الإنسان لسانه بذكر الله و العيش معه و أن يقتدي بزكريا و مريم في سنّهما سنّة الصمت في موضعه ' إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ' ... إن الذي يقوي هذه الفضيلة – فضيلة الصمت – هو تقوى الله عزوجل حتى يرى الأخ الأسير الحق حقا و الباطل باطلاً ، فلا تعود الأمور تنطلي عليه ، أو تخدع ألاعيبهم نفسه و بذلك تلتقي التوعية الإيمانية مع التوعية الأمنية في تشكيل شخصية الأخ المجاهد اليقظ الفطن اللبيب . نبذة سريعة عن العصافير و آثارهم : قال الله تعالى في كتابه العزيز : ' و من الناس من يقول آمنا بالله و باليوم الآخر و ما هم بمؤمنين * يخادعون الله و الذين آمنوا و ما يخدعون الا أنفسهم و ما يشعرون * في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا و لهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ' ' البقرة 8-10 ' لمّا كانت النسبة الأعلى من اعترافات المجاهدين و المناضلين و المعتقلين في التحقيق تنتزع عن طريق العملاء المنافقين الذين يسمّون ' بالعصافير ' … حيث أنهم يخدعون المجاهد المعتقل متظاهرين أنهم من المعتقلين و يعيشون في أجواء مصطنعة بنفس أجواء المعتقلين و يطبقون أنظمتهم و طرق إدارتهم لشؤون حياتهم لكي يسهل التأثير على المجاهد و يكسبوه ثقتهم حتى يتكلم هو بما عنده أو يطالبوه هم بذلك ، و بطريقة و أخرى يقع كثير من المجاهدين في حبائلهم الا ما رحم ربك . لقد أُسست غرف العصافير في السبعينيات ، و سنة بعد سنة ازداد دور هذه الثلة و ازداد تأثيرهم فتكاً بالمجاهدين ، مما انعكس سلباً على قوة و فاعلية الجهاد على أرضنا المباركة ، رغم كل ما نراه من آثار طيبة لهذا الجهاد . فكم من المجاهدين و كم من المجموعات و الخلايا و كم من القادة كشفوا و لم يكن يعلم بهم الا الله ، رغم الإعتقال و التحقيق و التعذيب … و كم من العمل الجهادي المميز كشف و هو في طور الإعداد له أو قبل اللحظات الأخيرة من تنفيذه ، و لم يكن كل ذلك بحذاقة و جهود ضباط المخابرات و التحقيق و لكن في كثير من الأحيان كان بسبب هذه الثلة التي باعت نفسها للشياطين . و لهذا و من واقع التجربة المرّة حيث كنت أحد الضحايا الذين غرر بهم ، ارتأيت أن أكتب قصتي عندهم ، و هي واحدة من مئات القصص التي حدثت عندهم في أي مركز من مراكزهم الملتصقة و التابعة للسجون ، أستصرخ من خلالها كل العاملين و المخلصين في هذا الشعب العظيم أن يعوا جيداً هذا الشرك ، و أن يأخذوا دورهم بتوعية الشعب بأكمله إن أمكن دون الخضوع لرهبة المحاذير من القيام بذلك ، فإياكم و الخداع . و العاقل السعيد من اتعظ بغيره ، و العبر كثيرة لكن العبرة فيمن اعتبر . و ليكن شعار كل مجاهد أنه ليس لأحد أن يطلع على سره حتى و ان كان أكبر مسؤول تنظيمي ، و أن لا يتنازل أي مجاهد عن هذا المبدأ تحت أي تبرير من التبريرات أو شعار من الشعارات . قصتي عند المنافقين ' العصافير' بعد أن تم اعتقالي أنزلت الى التحقيق .. جلس معي ضباط التحقيق جولات عديدة و طويلة .. استعملوا كثيراً من الأساليب النفسية الصعبة من تهديد ووعيد و تحبيب و ترغيب .. و استعملوا بعض أنواع التعذيب الجسدي .. و لا نتيجة .. تركوني وحيداً في أماكن معزولة عن البشرية بأكملها ، في ظروف تفتقر الى أدنى الخدمات الإنسانية كالشمس و الهواء أو الإنارة و الماء أو حتى مكان لقضاء الحاجة ، و لا حتى لون من ألوان الطبيعة على جدرانها ليريح النظر ،، لم أكن لأعرف أين أنا و لا ما هو الوقت و لا حتى أن تعرف ان كنت في الليل من النهار … و لا شيء يدعو للأنس أو الألفة .. وبرغم ذلك كله ( لم يأخذوا نتيجة حقيقية ) .. و لكن عندما أنزلوني عند هؤلاء الخون ' العصافير ' لبثت بينهم ما يقارب ال 25 يوماً في خيم معتقل مجدو ، كنت قد افترضت من بدايتها أنهم عملاء 'عصافير' فعلاً …! و لكن ما حصل على أرض الواقع كان مختلفا تماما … كان لدي من المدعمات و المعلومات عنهم قبل النزول عندهم ما كان من المفترض أن يقيني عند معاشرتهم لكن التعامل بحسن النية و بطيب القلب كانت أهم العوامل التي أعمت بصيرتي و تحوّلت إلى نوع من السذاجة ، بالإضافة الى عدم قول 'لا' بالجرأة اللآزمة عند الحاجة إليها تحت وقع الحياء من تعاملهم الطيّب و تآكل الصبر في ظلال المسرحية المحكمة التي مثلوها لي و أقنعـوني بنقائــهم و صدقهم من خلالها و أوقعوا بي فيها. أهم التفاصيل المتعلقة بحياة العملاء ' العصافير' و طريقة دخولهم الى ما يخص قضيتي . أولاً : حياتهم العامة و طرق إدارتهم لها : إن إدارتهم لشؤون حياتهم منظمة بدرجة عالية .. فهم يستيقظون كل يوم قبل الفجر بثلث ساعة ، يتهيأ خلالها الجميع للصلاة بإستثناء من لا يريد أن يصلي - و هم قلّة - .. يُأذِّنون لكل صلاة و يصلون في جماعة ، و بعد الفجر يعود الجميع للنوم الى حين العدد – أي عندما يأتي الجنود للتأكد من عددنا – فيقوم الجميع و يجلس جلسة عدد و يقومون بتغطية شاشة التلفاز … و هكذا ، أي بنفس نظام المعتقلين ، و بعد ذلك يتموا نومهم ، و في تمام الثامنة و النصف صباحاً يلزم الجميع بالإستيقاظ ، و تكون القهوة و الشاي بإنتظار الشباب ، و يجهز بعد ذلك في التاسعة الفطور و يجلس الجميع معاً على مائدة واحدة .. و بنفس النظام في وقت الغداء و العشاء .. مواعيد منظمة يلتزم بها الجميع . و يتم توزيع الأدوار و المهمات وفق توجيهات ما يدعى بموجّه القسم عندهم .. الذي يجلي ، الذي ينظف ، الذي المسؤول عن الدورة و الحمامات ، الذي يعمل في جهاز الرصد ، الذي يقوم الليل ملزماً بالحراسة على الشباب ، الذي يخرج الى الزيارات ، … الخ . و من المناصب الرئيسة التي سمعت بها بينهم : الأمير الأمني : إختصاصه فقط بالمواضيع الأمنية و الجلوس مع المعتقلين الجدد ، و له نائب يساعده و يناوبه و يقوم بدور تكميلي . موجه القسم : و هو المسؤول عن القسم و عن جميع المسؤولين فيه و يتدخل في وقت الأزمات . شاويش الخيمة : و هو المسؤول عن إدارة شؤون السرايا و احتياجاتها المختلفة . المردوان : و هو - كما عرّفوه - البريد التنظيمي بين الأقسام ، و هو الذي يحمل و يدخل كل احتياجات الشباب ، و يتابع مع الجنود كل ما يحتاجونه من السرية . الإمام : و هو المكلف بإدارة شؤون الإمامة و خطب الجمع و الدروس و المحاضرات . … فيما بعد الظهيرة يُلزم الجميع بإلتزام بُرشه – أي فراشه و مكان نومه - اذا كان هناك قرار بالقيلولة و يلتزمون أيضاً بالهدوء التام لمن لا يريد النوم . و في تمام الساعة الحادية عشرة ليلاً يلتزم الجميع برشه و تدخل فترة الهدوء النسبي و بعد نصف ساعة تدخل فترة الهدوء التام ، و في تمام الساعة الثانية عشرة تطفأ آخر سيجارة ، يبدأ بعد ذلك الشفت اللّيلي عندهم و يمتد حتى الفجر و يُلزم به في كل ليلة اثنان يحددهم