[size=16]ثقافة الإستشهاد...
الشهداء.. شموع تضيء لنا دروب مسيرتنا، كلما أرجَفَنا الوقت، وتكالبت علينا صنوف القهر والضغط والحصار نشتدّ بهم، لأنهم الذين قدموا أرواحهم ودماءهم وأمنياتهم رخيصة من أجل أن نحيا.
هؤلاء العظماء بقرارهم، وبقدرتهم على البذل والعطاء غير المحدود، الحاملين مشاعل الأمل، والحالمين بحياة حرةّ كريمة لنا ولأجيالنا، الصاعدين تباعاً إلى العلا مؤمنين بما وعدهم ربهم، منهم من لبى نداء ربه، ومنهم من ينتظر.
عندما يختلّ ميزان القوّة بين الغازي وصاحب الدار إلى درجة يصبح مجرد تصوّر تكافؤ القدرات بالمواجهة والتصدي أمراً بعيداً عن المنطق والعقل، تبرز الحاجة إلى ابتكار وسائل جديدة وحديثة ومختلفة لإقامة حدّ أدنى من القدرة على المواجهة والصمود، غير ذلك معناه الاستسلام والرضوخ، وإعلان الهزيمة، إذ لا يعقل أن نقيم مقارنة بين من يحمل عصا، وبين من يتحصّن في دبابة أو طائرة ويملك أفتك الأسلحة القادرة على التدمير والقتل الجماعي والمشبع ليس للبشر فقط ولكن للشجر والحجر.
ومن هذا الإيمان، ولأننا أمّة يجب أن تحيا وهي تحمل كل القيم الإنسانية والحضارية والتاريخية والتراثية، ولأننا نتمتّع بقيمة مثلى، شربناها ورست في ضمائرنا منذ أن أُنزلت رسالة الإسلام على صدر نبيّ الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام، وانتشرت لسلام البشرية، محمولة على تضحيات المؤمنين القادرين على البذل دفاعاً عن الدين والأرض والعرض، الموعودين بالجنّة وهي دار مستقرّهم نجوماً ومشاعل ينيرون أمامنا طريق الحياة، ويتوضّعون أقماراًً على جباهنا، ورموزاً نتمثّل بهم، ومكاناً في أعلى العليين عند ربهم يرزقون، كان الطريق إلى الشهادة هو الطريق لتحقيق الحياة، ولا أعتقد أن بعد هذه المكرمة يمكن أن ترقى أي مكرمات أخرى.
وليست الشهادة بذاتها غاية، إذ لا يعقل أن يقدّم كائن روحه وهي أغلى ما يملك جزافاً ودون أثر ودون سبب، بل هي وسيلة لتحقيق غايات نبيلة تمسّ روح الحياة، من قضى في سبيلها فهو شهيد، ومن بقي على قيد الحياة فهو شهيد حيّ، ويبقى ذلك النبيل.
وهل هناك أنبل من إقامة الدفاع عن العقيدة والأرض والعرض.؟
يقول "أبو ذر الغفاري" الصحابي الجليل رضي الله عنه: (أعجب لامرئ لا يجد قوتاً في بيته ولا يخرج شاهراً سيفه على الناس.) فكيف إذا كان الأمر في فقد وطن بكل ما يحمل هذا الفقد من أبعاد ورواسب.!!
نحن شعب تكالبت علينا غوائل الغزاة، طمعاً في ثرواتنا وأرضنا، ومرتعاً لترويج صناعاتهم ومنتجاتهم، وفوق ذلك كلّه في مساعيهم التي لم تتوقف يوماً على تذويبنا كأمّة، وطمس وجودنا وهويتنا الدينية والإنسانية، فهل بعد هذا كله تستقيم لنا الحياة.؟
نحن.. الأمّة الوحيدة على هذا الكوكب التي استطاعت عبر تاريخها أن تفرز من ذاتها وسائل تصديها للهجمات التي استهدفتها، ونحن الأمّة الوحيدة التي تستطيع لأنها تملك العمق التاريخي والتراثي والإنساني أن تتجاوز انكساراتها، وتنهض من قلب اليأس إلى قمّة القدرة على التفاؤل وتحقيق وجودها، والتاريخ يشهد، والأمم التي غزتنا واحتلتنا واستعمرتنا "طال احتلالها أم قصر" تدرك ذلك جيداً لأنها دخلت تلك الدائرة، وتجاوزت الخطوط الحمراء، ومارست كل فنون القهر والقتل والتدمير والحصار، لكنها خرجت دون أن تحقق مراميها.. ونحن بقينا على هذه الأرض.. وسنبقى
وكان علينا في كل مرة أن ندفع ثمن بقائنا، لأن الحرية لا تُستجدى، ولا تُطلب، وليست متاعاً يباع ويشترى، ولن يعطيها لنا أحد بالمجان، بل تُؤخذ غصباً، وبعض الغصب أن نملك القدرة على التضحية حتى بالروح.
لقد استطاعت هذه الأمّة أن تستولد في كل وقت وسائل صمودها وتصديها، ثقافات تتوالد كما تتوالد النسور كلها تصبّ في نسيج الوطن، لأن الوطن هو الأرض التي تنمو عليها كرامة مالكيها، ولأنها الرمز والمنطلق والمحور لتأصيل الانتماء.
ومن قال أن الثمن رخيص.؟
الموت حق، وقد يكون الحقيقة الأكبر في هذه الحياة، (من لم يمت بالسيف مات بغيره... تعددت الأسباب والموت واحد.) ولا يستطيع أحد أن يدّعي الخلود، ولن يستطيع أحد أيضاً أن يقف في مواجهة من يسعى إلى النصر ويحمل روحه على كفّه.
من يتطلع إلى حياة كريمة في ظل وطن حر له ولأسرته ولمجتمعه تهون في نظره كل التضحيات، حتى التضحية بالروح وهي أغلى ما يملكه كائن على الإطلاق، وقد منّ الله سبحانه علينا بنعمة الإسلام، وعلّمنا بأن الشهادة خلود، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، ومن هذا المنطلق أيضاً تخرج الروح من الجسد لتحيا من جديد برزق من الله سبحانه، ومتى وصلت درجة الإيمان بأن لا حياة مع بقاء المحتل والمستعمر، تصبح التضحية أمراً عادياً يجعلنا جميعاً على سلّم التضحيات ومقولة النضال، مشاريع شهداء.
ووسائل النضال أكثر من أن تعد وتحصى، ولا تقتصر على بندقية أو سيف أو خطاب، بل هي مجموعة ثوابت تتلاحم وتتفاعل من أجل تحقيق غاية واحدة.
هو القرار والاستعداد للتضحية بكل شيء حتى بالروح من أجل الخلاص من القهر والذل والمهانة، هو أول طريق للشهادة، من يخرج إليه، ويمشي في مسالكه فقد ينالها ويسكن في ضمير الحياة، ومن يقطف ثمار الحريّة والانتصار فهو الحيّ الشهيد.
وليخسأ المشككون. [/size]