الفارس أبو علي مصطفى.. والفكرة الثورية
بقلم: أبو علي حسن
طويلة هي المسافة الزمنية بين استشهاد القائد الفارس أبو علي مصطفى، وبين الواقع الفلسطيني اليوم، هي المسافة التي امتلأت وزخرت بالأحداث والتطورات السياسية والعسكرية على الصعيد الفلسطيني، والعربي، والدولي. فالواقع الفلسطيني اليوم يئن من الجراح، ويفتقد إلى الحكماء والأطباء، والرموز، فخلا من زخم الكفاح السياسي والوطني، وسقطت قدسية الدم الفلسطيني، وانفصمت عرى الوحدة الوطنية، وانقسمت سلطة الوهم إلى سلطتين، وصار للشعب الفلسطيني مشروعان، وثقافتان، ورئيسا وزراء اثنان، ولكل وزارة وزيران، ولكل منصب مدير مديران، ولكل مسؤول حارس وعشرون، ولكل متطفل عل النضال راتبان.. وأضحت إسرائيل تتسلى بالسلطتين، وضاعت البوصلة فيما بين الأخوة الأعداء، والواقع العربي يندى له الجبين، سقطت بغداد المنصور، وانطفأت الثانية، وتمزقت إلى خرق بالية، وتفشت الطائفية بأفكارها الرجعية والسلفية، ولم تعد الدولة القطرية الواحدة قادرة على حماية نفسها من نفسها ومن عدوها.. والحالة العربية ليست أفضل من الحالة الفلسطينية، فالأخيرة وليدة الأولى، والأولى هي بيت القصيد.. هذا هو الواقع الفلسطيني والعربي كخلاصة لا كشريط أحداث جسام، فثمة أحداث جرت على مدار هذه المسافة الزمنية والتي بدأت مع وصول إدارة بوش الأمريكية، قلبت معادلات، وتوازنات، رأساً على عقب.
واليوم تمر الذكرى الثامنة لاستشهاد الفارس (أبو علي مصطفى) ـ الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في سابقة سياسية إسرائيلية باستهداف المستوى السياسي الفلسطيني في الأرض المحتلة، " بعد اتفاق أوسلو"..!! وفي سياق مخطط إسرائيلي ممنهج اعتمده المجلس الوزاري المصغر بقيادة شارون عام 2001.
باغتياله، واستهدافه شخصياً بصاروخ يطلق من طائرة عسكرية على مقره في رام الله أعلنت إسرائيل بداية الحرب الحقيقية على الشعب الفلسطيني وقياداته بعد أن وصلت اتفاقيات أوسلو إلى طريق مسدود، وفشل كامب ديفيد الثانية، وإعلان الحرب هذه كانت الخطوة الإسرائيلية المدروسة والمخطط لها للانقلاب على أوسلو "على الرغم مما حققه لإسرائيل من مصالح إستراتيجية"، فإسرائيل بهذا الاغتيال، وما تلاه من حرب على الضفة والقطاع، وإعادة احتلال المدن التي انحسر عنها الاحتلال تكون قد ضربت كل مقومات فكرة الدولة الفلسطينية من الجذور ووضعت الحالة الفلسطينية أمام استحقاقات جديدة، ليست هي استحقاقات بناء الدولة الفلسطينية أو التسوية والتي كان يبحث عنها الفلسطيني التائه عبر أوسلو.. إنما استحقاق التخلص من أزمة جديدة، واحتلال جديد، ومنطق صهيوني جديد، وشروط إسرائيلية جديدة، كان آخرها الاعتراف الفلسطيني بيهودية الدولة العبرية، وجاءت الانتفاضة الثانية كاستحقاق وطني لمواجهة هذا التحدي الإسرائيلي والتي استمرت سنوات، وطرحت خلالها مبادرات، وتسللت إليها خيانات، وسالت دماء، وفقد العرب شرعية وجودهم مع مبادرة القمة العربية التي اعتدت على حق العودة ومهدت الطريق الرسمي العربي للتطبيع من الكيان الصهيوني، وغادرت منطق المقاومة والدفاع، الأمر الذي يعيدنا إلى البيئة السياسية والوطنية التي اغتيل في ظلها الفارس، هل كانت إسرائيل تريد اغتيال (أبو علي مصطفى) بشخصه، أم أنها كانت تريد أن تغتال الفكرة، وكي وعي الناس، وقتل الرؤية والمشروع، وتغتال الحالة الفلسطينية التي اختمرت فيها شروط الانتفاضة الثانية بعد فشل أوسلو وكامب ديفيد.
إن استهداف القائد أبو علي مصطفى، كان استهدافاً لما يمثل من فكر ثوري، وطرح سياسي وطني، وخيار كفاحي لا يستجيب لشروط الاحتلال، كان استهدافاً لمنحى تنظيمي بدأ يخطه القائد لحزبه وجبهته عملياً، وميدانياً على الأرض.. كان ضربه لخطوة تأسيسية نحو الفعل الكفاحي والمقاومة، كان اغتيالاً يستهدف قطع الوصل بين الفكرة والأداة.
فقد مثل الشهيد أبو علي الحالة الفلسطينية القيادية (الشاذة) لدى الاحتلال التي أعلنت جهاراً انقلابها على أوسلو وتداعياته، بل هي الحالة القيادية الشاذة التي جاهرت بشفافية الإنسان الثوري برؤيتها وقرارها في المواجهة على الاحتلال، وجاهرت بأن أوسلو قد سقطت تحت وطأة الاحتلال وقمعه وبطشه، وتنكره لحق الشعب الفلسطيني، ولم يبق إلا الإعداد والتحضير لخيار المقاومة والانتفاضة وممارسة أعلى أشكال النضال ضراوة.
من هنا كان قرار القيادة الإسرائيلية سريعاً وحاسماً بالاغتيال " لا بد من قتل هذا (الكلب) فوراً ـ هذا ما قاله شارون في المجلس الوزاري المصغر".
كان أبو علي مصطفى ممسكاً المشروع الوطني بيديه، وقلبه، وفكره، كان قابضاً عليه، ويرنو ببصره بعيداً نحو أفق الانتصار، واثقاً بأن فلسطين التاريخية هي الفكرة والإيمان قبل الأداة.. وأن حملها ثقيل وثقيل، وقليل هم الثوار الذين يقبضون ويمسكون بها.. فاحتضنها بثبات، وشجاعة، وإخلاص ونزاهة الثائر الحالم، والمنغمس في هموم شعبه.
كان يدرك أن المشروع الوطني يتجسد أولاً في إظهار الحق، وعدالة القضية، ووحدة أصحاب الحق والقضية، وخيار الثورة والمقاومة، وأن الحق لا يتجزأ، بل مطلوب إظهاره وإشهاره، والعمل على استحقاقه. فعمل جاهداً على وحدة الصف الفلسطيني، وكرس وقتاً ثميناً من جهده وعرقه لوحدة القوى الديمقراطية قبل استشهاده ليبدأ في تأسيس حالة إنهاض للوضع الفلسطيني والقوى الديمقراطية على وجه الخصوص، الأمر الذي استفز الاحتلال، وكان الغدر بمستوى خطورة الفكرة على كل المشروع الصهيوني.
ترى هل ماتت الفكرة مع اغتيال الفارس والقائد والرموز، هل ماتت الفكرة مع وقف الانتفاضة الثانية؟
لم يمض على اغتيال الفارس أربعون يوماً، إلا وسقطت أوهام الاحتلال باغتيال الفكرة والتنظيم، فقد رفع الراية والفكرة معاً مقاومون جدد، فكان الرد سريعاً بتصفية الوزير العنصري رحبعام زئيفي الذي شارك بالتخطيط والقرار باغتيال القائد..
وسقطت مرة أخرى أوهام الاحتلال بفضل اندلاع الانتفاضة الثانية بوتيرة أشد وأعمق أثراً واتساعاً، أجبرت الاحتلال أن يخوض حرباً طويلة وشاملة في كل مدن الضفة والقطاع مروراً بمجزرة جنين، وغزة، والخليل، ورام الله، وبيت لحم، وسقطت كل أوراق التوت التي تغطى بها أمام الرأي العام العالمي بأنه الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وانجلت صورته أمام الرأي العام الغربي بأن " الدولة العبرية " أخطر دولة على السلام العالمي..
وسقطت أوهام الاحتلال مرة ثالثة بظهور كتائب أبو علي مصطفى في الميدان على مدار الانتفاضة الثانية، ولا زالت حتى اليوم، وهي تترجم ذات الفكرة، وذات الرؤية التي مثلها الشهيد في حياته.
لقد كان الشهيد رمزاً سياسياً، ووطنياً، وكفاحياً، ومع اغتياله تحول إلى رمز شعبي، وشهيد ترك بصمة كفاحه، ومواقفه، ومثابرته، وشجاعته وتحول إلى أيقونة وطنية إلى جانب الأيقونات الوطنية الفلسطينية التي تملأ الذاكرة الفلسطينية، وتجدد عناصر الهوية الوطنية.
واليوم مضى على استشهاد القائد ثماني سنوات عجاف، أين السلطة، وأين الفكرة، أين السلطة الفلسطينية، وحزبها، وقادتها من الفكرة، ومن المشروع الوطني؟ كيف يصنع الإنسان الفلسطيني الجديد، وعلى يد من.. ولماذا، وأي فكرة سيحملها الإنسان الفلسطيني الجديد الذي سيصنعه "دايتون".
أين سلطة غزة من الفكرة، ومن المشروع، والوحدة والخيار.. هل استحال المشروع الوطني إلى مشاريع السلطة.. وأي سلطة، وأي أفق؟!..
ثمة خيانة لفكرة تأصلت على مدار قرن من الزمان، وثمة عقوق للشهداء والرموز والثوار، وثمة تنكر للتاريخ، وثمة تراب يكرس على الحق، وتعتلي عليه المصالح، والامتيازات، والعصبيات، والشركات، والشعوذات، وتجارة الأنفاق!
أين سلطة غزة، وسلطة الضفة من الفكرة، من الوحدة الوطنية؟ الوحدة التي حرص عليها وتغنى بها الشعب الفلسطيني على مدار عقود من الزمن.
لقد سقطت المحرمات، وديست المقدسات، ولعنت القيم والمفاهيم، تحت ضآلة العقل والفكر، وسقوط الروح، ورداءة الفعل، وتفشت أمراض الطائفية الحزبية والسياسية.
من أكمل على اغتيال الفكرة، ومن أسقط المشروع، ومن شوه الحق وأدار ظهره لوطنه، وركب الأنا الفصائلية والسياسية، فيسقط الشهداء صرعى مرة أخرى وتلو المرة؟!.
بيد أن الفكرة تسكنها الروح، وتأبى الموت، فما زال هناك نفر غير قليل يلتقطها متسلحاً بالإيمان، والإخلاص، والنزاهة الوطنية، تلك هي روح الشهيد أبو علي مصطفى.
عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين