بقلم: باسل الطناني
الأحداث هي التي تصنع الأشخاص والرموز. العلاقة بين الواقع والشخص علاقة جدلية، فكلاهما يؤثر في الآخر. أحيانا لا تتصور الأحداث التي تعيشها حتى في الأحلام، ولم أكن أتوقع أن أكون بهذا الوضع الذي بالكاد كنت أصدقه.
قرأت في قصص الثورة الكثير، وكذلك عن بعض الصحفيين، ولكن لم تكن هذه القصص أكثر من سرد تاريخي لتجربة البعض حتى يوم السابع والعشرين من ديسمبر 2008، حيث صحوت فجأة على صوت الانفجارات القوية مذهولاً وكأنني في صدمة، وعرفت مباشرة أنه تم قصف الإدارة المدنية.
فعلا توجهت هناك، وقدمت عبر جوالي رسالة صوتية، وللأسف لم أتمكن من وصف الخراب والدمار كما هو، وأمضيت يومي متنقلا من موقع لأخر وسط مشاعر غريبة تدفعني للمزيد من العمل والتوجه لأماكن القصف، وأصبحت بالفعل مطارِدا للأحداث فقط بالجوال، حيث الإمكانيات أقل من بسيطة، فالإذاعة لا يوجد بها دروع أو أجهزة أو إشارات تدل على أننا صحفيون أو مراسلون.
عدم امتلاكي للخبرة الكافية، التي تؤهلني كصحفي لتغطية هذه الحرب، كانت حاضرة، فالخبرة لا تتجاوز عاماً واحداً، والعمل في الحرب، بحد ذاته، قصة أخرى، قد يعجز صحفي خبير أن يضطلع وينهض بها، بالشكل المطلوب.
مع ذلك كنت أعمل بهذا الواقع حتى تلك الليلة، التي قُصف فيها مبنى الجامعة الإسلامية، إذ وجدت نفسي وزميلي محمود عليان بسيارة الإسعاف، وكنا الوحيدين من الصحافيين هناك. قدمنا تقريرا على الهواء وغادرنا.
وفي الليلة التي تم فيها قصف مجمع الوزارات كنت أغطي الحدث، وفجأة تم قصف المكان بالصاروخ الحادي عشر، ولم أعرف ما حدث إلا بعد ثلاث دقائق، حينما عدت للخروج على الهواء مرة ثانية، ليعرف الجميع أنني ما زلت على قيد الحياة بعد أن أيقنوا أنني أصبحت في عداد الشهداء.
مضت أيامنا متواصلة مع ليالينا، لا نعرف للنوم طعم وبالكاد نجد الطعام أحيانا، وفي ليلة الهجوم البري كنت في تغطية الحدث في مستشفى الشفاء وسمعنا عن بدء الهجوم البري. ركبت سيارة الإسعاف إلى منطقة حي الزيتون، وهناك قدمت التقرير الأول، وبعدها لم أعرف أين أذهب وكيف أعود فالمقاتل والمواطن يبحثان معا عن ملجأ آمن، وحالة من الخوف والهلع تسود شوارع غزة وكأنها مدينة أشباح. وجدت نفسي في مبنى الإذاعة وسط قصف مجنون واستغاثة المواطنين، وبإمكانيات بسيطة تجاوزنا كل هذه الأحداث وكأنها حلم، فالحياة كانت في مبنى الإذاعة مليئة بالخوف، وأنت تنتظر الموت في كل لحظة. .. كنت أشعر وزملائي أننا وحدنا نتحدث في هذا القطاع المسكون بالصمت،
إلا من أصوات الانفجارات وآهات المصابين والجرحى!
المسئولية هنا باتت مضاعفة.. نبرة الصوت، وطريقة الحديث، حتى قبل المعلومة كانت كلها لها أثرها.. وجب علينا أن نكون حذرين للغاية..
"إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت.. إنها قضية الباقين"، وانطلاقا من هذا الاقتباس الكنفاني، علينا أن نكتب تاريخنا بأنفسنا، وألا نسمح للآخرين بتزويره. الحرب كانت فرصة لتجديد الوعي بحقيقة الحركة الصهيونية، القائمة على مبدأ "جيش له دولة"، والتي لا تعيش إلا على قتل الآخرين وتشريدهم. على كل العالم أن يعرف ذلك، وعلينا نحن أن نكون الرُسُل.
* مذيع في إذاعة صوت الشعب.