لم أكن لأحظى بلقاء شخصي مع «الحكيم» جورج حبش لولا مهنة الصحافة. ولم أكن لأسمع به وعنه لو لم أنشأ في بيت وبيئة لا يبكيان إلا لفلسطين، ولأهلها، ومحبيها والمناضلين من أجل تحريرها من عدوّ فاق تعريفه تعريف الظلم عينه.
تحدد موعد لإجراء مقابلة صحافية معه في مكتبه في دمشق، لحساب جريدة «السفير» برفقة رئيس تحريرها يومذاك وناشرها اليوم الأستاذ طلال سلمان. كان ذلك بعد مرور حوالى ثلاثة أشهر على انعقاد دورة المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر وإعلانه قيام دولة فلسطين (خريف 1989). كانت هواجسه واضحة، «وحكمته» دقيقة في توصيف الآتي من مرحلة سياسية لازمت خطوات العمل الفلسطيني على مستوى القيادة.
كنت «صدامية» منذ اللحظة الأولى في ما طرحت من أسئلة، وتحديدًا حول تغطية «الحكيم» لسياسة عرفات التي لطالما أسماها «بالتنازلية» الى أن انكسرت بعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993.
لم يكن إلا هادئا، قياديا ومسؤولا في أولوياته «بعدم اتخاذ أي خطوة من شأنها هز الوحدة الوطنية الفلسطينية في ظل الانتفاضة لأن ذلك هدية لشامير ورابين والكيان الصهيوني» («السفير» 23/1/1989).
وبالرغم من «عدم رضاه عن التوجه الرسمي لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية كما قال، فإنه أصرّ على عدة مواقف تنبئ باستقرائه ومخاوفه البعيدة. ومنها ما ورد في هذا الحديث:
ـ ان الحجر الذي يرميه رفاقنا وإخوتنا في «فتح» هو جامع كبير بيننا.
ـ ان سياسة التنازلات المجانية لن توصلهم الى نتيجة.. وليست الطريق لإقامة دولة فلسطينية.
ـ شعاري «ثورة حتى النصر.. وحدة حتى النصر».
ـ نرفض أن يكون ثمن قيام دولة فلسطينية الاعتراف بحق اسرائيل في الوجود.
ـ سياسة عرفات الآن تمثل خروجا عن قرارات المجلس الوطني الفلسطيني (دورة الجزائر).
ـ أكبر موضوع أندم عليه عدم الإعلان عن انطلاقنا كحركة قوميين عرب عن نهج الكفاح المسلح يوم استشهد لنا الرفيق خالد ابو عيشة في منطقة الجليل عام ,1964 أي قبل أي حديث عن كفاح مسلح.
ـ من أخطاء الثورة الفلسطينية أنها عملت من منطلق قطري لا من منطلق قومي.
ـ لا يمكنني أن أقع في خطأ يجعلني أتصور أن معركتي هي مع ياسر عرفات قبل أن تكون معركتي الأولى والأساسية مع الكيان الصهيوني.. لا تتوقعي مني أن أقع تاريخيا في هذا الخطأ. (مواقف برسم اللاهين عن عدوهم اسرائيل بالإصرار على تحرير المكاتب هنا وهناك).
الحكيم الذي سألته عن نقده السياسي لجمال عبد الناصر بما يفوق نقده سياسة عرفات، لم يتردد في القول «أريد أن أسجل محبتي واحترامي وتقديري لهذا القائد العربي الكبير وللإنجازات التي تحققت أثناء وجوده على رأس النضال القومي العربي التحرري»... مشيرًا الى عدد من أسباب الخلاف «ولكننا بشكل عام كنا في حالة تحالف وطيد ووثيق مع عبد الناصر».
في حوار معه («السفير» بتاريخ 8/6/ 1992) إثر عودته من العلاج في فرنسا ومحاولات منعه من ذلك يومها، لم أكن أتوقع أن أرى دموع «الحكيم» تنهمر على خديه. سألته وقتها عن أسماء لم تعد موجودة في مفكرته فقال سريعا: عبد الناصر ترك في نفسي أثرا كبيرا جدا.. رأيته لأول مرة في بيته. كان يسير مع زوجته. كان يرتدي بنطلونا مرفوعا بطوية الى ما تحت الركبة، وعندما رآني ترك زوجته وأتى (هنا لم يكمل الدكتور حبش حديثه بسبب تأثره الشديد والذي دفعه الى البكاء). ثم أضاف: كان رجلا شديد البساطة، متواضعا جدا. أثناء علاقتي به كنت أسأل نفسي هل أنت يا جورج حبش متأثر بعبد الناصر نتيجة لهذه الهالة الاعلامية المحاط بها. كنت أحرص ألا أقع تحت تأثير هذه الهالة الإعلامية، لكن الحقيقة انه كان شخصا مختلفا. يصغي كثيرا، ويعرف كيف يصغي ومتى يسأل ولا يعيبه أن يسأل عن أشياء كثيرة. ثم إنه قابل للنقاش، يأخذ ويعطي، وتلمس منه إخلاصه الشديد. أنا أذكر عندما قابلته بعد هزيمة 67 (يصمت يحزن يتهيأ للبكاء) قال لي (عبد الناصر) حينها: أنا منعزل منذ يومين، لا يقدر أحد أن يدخل عليّ، ولكن كلما استمعت الى المذياع أن فلانة تهدي سلامها الى فلان أفقد صوابي. كان ينتقد نفسه بحدة. إنسان من هذا النوع من الطبيعي أن يثير في نفسي أعلى درجات الاحترام.
وبعد التوقيع على اتفاقية اوسلو، أجريت معه حوارا في مكتبه في دمشق («السفير» بتاريخ 7/12/1993) . قال يومها «كنا نشتم رائحة ما قبل اوسلو لكننا لم نكن ندرك أن عرفات سينحدر الى هذا المستوى».
كان شديد القساوة النقدية لمراحل سابقة ومنها «اننا أقدمنا على إنشاء حركة القوميين العرب دون توفير الأسس اللازمة لنجاح التجربة، ومنها غياب الديموقراطية، والتركيز على الوحدة دون الاهتمام بقضايا الناس الحياتية، وعدم التوقف عند موضوع الأقليات».
في هذه المقابلة توقف أمام «ضرورة حصول تغيرات أساسية لمجابهة المرحلة المقبلة وأهمها التحالف مع القوى الديموقراطية والقوى الاسلامية المتمثلة بحزب الله وحركة حماس. فأنا كماركسي أقول «برافو» لهم. فالنهوض الإسلامي يمثل فقط حزب الله وحماس ولا يتمثل في قوى إسلامية اخرى مرتبطة بالامبريالية ومخططاتها. من هنا نرحب بهذا النهوض الإسلامي ونتحالف معه».
حبش الذي تنبأ في المقابلة بتاريخ (23/1/1989 في «السفير») بقوله «إذا كان القادة الصهاينة يخشون الطفل الفلسطيني الذي سيولد، ماذا سيكون مصير هذا الكيان؟ في عام ألفين أو ألفين وخمسة سنصبح نسبة معينة تلعب دورها في مناطق 48 وفي تحطيم هذا الكيان. ليس هناك أي أمل ببقاء هذا الكيان الصهيوني في مناطقنا».
لقد عاش جورج حبش، وعايش النصر الذي حققه مقاومو حزب الله في تموز ,2006 فقهروا الذي كان لا يقهر. فكانت من حبش القيادي الجريء رسالة تقدير الى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله.
لم يخطئ رحمه الله في تحديد العدوّ من الصديق، ومن «ما هو مرسوم للقضية الفلسطينية من خلال المبادرة الاميركية»( 8/6/ 1992). أليس هو «الحكيم»، الذي لم يصل الى رتبة «رئيس»؟